/م44
{ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} هذا تصريح بمفهوم ما سبق لزيادة تأكيده وتقريره ، وجاء الحصر فيه بإنما التي موضعها ما هو معلوم بالجملة ، لأن المعنى قد علم من مفهوم الحصر بالنفي والإثبات الذي قبله .والمعنى إنما يستأذنك في التخلف عن الجهاد الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ؛ لأنهم يرون بذل المال للجهاد مغرما يفوت عليهم بعض منافعهم به ، ولا يرجون عليه ثوابا كما يرجو المؤمنون ، ويرون الجهاد بالنفس آلاما ومتاعب وتعرضا للقتل الذي ليس بعده حياة عندهم ، فطبيعة كفرهم بالله واليوم الآخر تقتضي كراهتهم للجهاد ، وفرارهم منه ما وجدوا له سبيلا .بضد ما يقتضيه إيمان المؤمنين كما تقدم .
{ وارتابت قلوبهم} أي وقد وقع لهم الريب والشك في الدين من قبل ، فلم تطمئن به قلوبهم ، ولم تذعن له نفوسهم ، وإنما الإيمان هو اليقين المقارن للإذعان وخضوع النفس .
{ فهم في ريبهم يترددون} متحيرين في أمرهم ، مذبذبين في عملهم ، يحسبون كل صيحة عليهم ، فهم يوافقون المؤمنين فيما يسهل أداؤه من عبادات الإسلام ، فإذا عرض لهم ما يشق عليهم فعله ضاقت به صدورهم ، والتمسوا التفصي منه بما استطاعوا من الحيل والمعاذير الكاذبة ، حتى إنه كان يشق عليهم حضور صلاة الفجر والعشاء كما ورد في الصحيح .وسيأتي في بيان فضائحهم{ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمعون} [ التوبة:57] ، وقد ورد في بعض الروايات أن عدد هؤلاء المنافقين كان تسعة وثلاثين رجلا ، ولعل المراد المستأذنون أو المتخلفون منهم .
روي عن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بآية سورة النور{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأْذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم} [ النور:62] ، والجمهور على أنها محكمة ، وما أرى هذا الرأي يصح عن ابن عباس ، فإن سورة النور نزلت قبل هذه السورة بالاتفاق ، وموضوع الاستئذان فيها غير موضوعه هنا وإلا كانتا متناقضتين ، فآية براءة في الاستئذان بالتخلف عن الجهاد والقعود عنه بعد النداء بالنفير العام ، وآية النور في استئذان من يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم على أمر جامع كالجمعة والعيدينوليكن منه الجهادويعرض لأحدهم حاجة يريد قضاءها والعودة إلى الجماعة ، فكان بعضهم لا يرى بذلك بأسا كالذين كانوا مجتمعين معه صلى الله عليه وسلم لصلاة الجمعة فجاءت العير بالتجارة فانفضوا إليها وتركوه قائما يخطب ليس معه إلا إثنا عشر منهم:أبو بكر وعمر وجابر الذي أخرج الشيخان والترمذي وغيرهم هذا الحديث عنه ، وفي رواية ابن عباس عند ابن مردويه في تفسيره أنه بقي معه سبعة عشر رجلا وسبع نسوة .وفي هذه الحادثة نزلت الآيات التي في آخر سورة الجمعة ، فصار المؤمنون بعد ذلك لا يخرجون من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة تعرض لهم إلا إذا استأذنوه وأذن لهم ، ولهذا قال الله تعالى في آية براءة:{ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله} ، والعجب من المفسرين الذين نقلوا هذه الرواية عن ابن عباس كيف سكتوا عن بيان هذا ، من سلم منهم القول بالنسخ ومن لم يسلمه ؟
وحكى الرازي عن أبي مسلم الخراساني في قوله تعالى:{ لم أذنت لهم} أنه ليس فيه ما يدل على أن ذلك الإذن في ماذا ، فيحتمل أن بعضهم استأذن في القعود فأذن له ، ويحتمل أن بعضهم استأذن في الخروج فأذن له ، مع أنه ما كان خروجهم معه صوابا لأجل أنهم كانوا عيونا للمنافقين على المسلمين .فكانوا يثيرون الفتن ويبغون الغوائل ، فلهذا السبب ما كان خروجهم مع الرسول مصلحة .قال القاضي:هذا بعيد ؛ لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك على وجه الذم للمتخلفين والمدح للمبادرين ، وأيضا ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم اه ما نقله الرازي عنه وعن القاضي عبد الجبار في الرد عليه وكلاهما من المعتزلة .
وأقول:إن هذا الاحتمال الذي ذكره أبو مسلم مردود بأن الخروج إلى الجهاد ما كان يحتاج إلى إذن بعد إعلان النفير فيستأذنوا له .وأما كون خروجهم مفسدة فهو صحيح وسيأتي النص عليه[ في الآية 47] ، ولكن أولئك المستأذنين لم يكونوا يريدون الخروج كما تقدم ، فكانت المصلحة في عدم الإذن لهم لينكشف سترهم ، فيعرف النبي والمؤمنون كنه أمرهم ، ويثبت هذا قوله تعالى:{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة}