{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} .
يبين الله تعالى أنهم لم يضروا الرسول شيئا ، فإن الله معه وهو في مكة ثم هو خارج منها ، وإنه لن يتركه أبدا ، وقد كان معه ، وقد نصره يوم الفرقان وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ} ( إلا ) ( إن ) الشرطية المدغمة في ( لا ) أي:إن كنتم لا تنصرونه وتخاذلتم عن نصرته فهو في غنى عنكم ولم يخذل إذ قد نصره الله تعالى وهو في قلة من العدد ، ولم يكن معه أحد ، فالماضي دليل على ما يكون فيه الحاضر ، ويكون الماضي جوابا للشرط الذي هو في الحاضر ، إذا كان الماضي فاصلا وفصله مستمد من الحاضر كقوله تعالى:{. . . . . . . إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ( 26 )} ( يوسف ) ، ولذا دخلت ( الفاء ) في الجواب لتبين انه جواب الشرط .
وخلاصة المعنى السامي:إن كنتم لا تنصرونه في الحاضر ، فلن يغلب لأن الله ناصره ، وقد نصره في الماضي ، وصور الله تعالى الماضي ، أو أعاد صورته في الأذهان فقال تعالت كلماته:{ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ} ، وإذ ظرف للماضي متعلق بقوله تعالى فقد نصره الله ، والمشركون لم يقصدوا إلى إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل كفروا في أمور ثلاثة إما أن يثبتوه أي يحبسوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، وأرادوا تنفيذ القتل ، اجتمعوا حول داره ليقتلوه ، وأتوا من كل بطن من بطونهم بفتى نهد ، ليضربوه ضربة رجل واحد ، فيضيع دمه في القبائل ، ويرضى بنو هاشم بديته ، ولكن الله حارسه .
وقد كان ما ذكرناه من قبل ، وقد جاء في بعض كلام المفسرين أنه خرج فارا من القتل ، وإن كان ذكر الفرار غير سليم ؛ فإن الهجرة كانت مقررة في علم الله تعالى ، وفي نظام الدعوة من قبل ما دبروه أو مكروه في يوم الندوة بدليل ما كان من هجرة عدد من المؤمنين من قبل ، ولم يبق بمكة إلا النبي وأبو بكر ، وعلي ، ولعل بعض بني هاشم .
فالهجرة كانت مقررة ، ويصح أن نسب إلى المشركين أنهم أخرجوه على أساس أنهم كانوا السبب في خروجه ؛ وذلك لأنهم عادوا الدعوة المحمدية ، ونابذوها ، وآذوا أهلها ، ولم يعاضدوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في دينه الذي بعث به ، فلم يعودوا صالحين لأن تقام دعوة الحق في أرض مكة ؛ لأنه لا يمكن أن تقوم دولة في ظل دولة الأوثان ، وقد كانت تناوئها ، وتعذب أهلها ، فكانت الهجرة أمرا لا بد منه لإقامة دولة الحق والوحدانية في المدينة التي وجد الإسلام فيها بيئة صالحة ، فغرس فيها غرسه .
وقد صور الله تعالى في كلامه الحكيم كيف كان نصره سبحانه في الهجرة ، فقال تعالى:{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} .
قال سبحانه وتعالى:{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال كونه واحد من اثنين ، أي أنه في قلة ليس معه إلا واحدا ، وهم يقتفون آثارهما ويتتبعونهما ، ويلجآن إلى غار ، يتتبعهما فيه عدد من رجالهم ، وأرسلوا واحدا ، يسير وراءهم إلى المدينة ، وإنهما عندما نزلا في الغار عشش على ظاهره الحمام والعنكبوت ، وما ذلك إلا من عمل الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية ، ولقد كان من يقتفي الآثار قد انتهى اقتفاؤه إلى هذا الغار ، وقال:ها هنا انتهى الأثر ، ولكن ظاهر الحال يكذب القافي ؛ لأن العنكبوت قد نسج خيوطه ، والحمام قد عشش عليه ، فكيف ، وذلك من فعل خالق الغار ، وخالق الحمام والعنكبوت الذي احكم خلقه وقدره تقديرا ، ولقد روى الإمام أحمد عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال:( ( نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رءوسنا ، فقلت:يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو أن أحدهم نظر إلى قدميه ، أبصرنا تحت قدميه ، ! فقال:( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ( 1 ){[1236]} .
وكما قال الله تعالى:{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} .
أي إن الله تعالى يصحبهما بحراسته وحمايته فلا يتمكن منهما .
والغار كان في جبل ثور على سير ساعة من مكة وهو في الجهة اليمنى منها ، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام ، كانت تأتي لهما فيها بالطعام – أسماء بنت أبي بكر ، أم الشهيد عبد الله بن الزبير الذي قتله الأمويون قتلة فاجرة ، وهتكوا حرمة البيت الحرام .
{ فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} .
الضمير في{ عليه} يعود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بدليل قوله تعالى من بعد وأيده بجنود لم تروها ، فالضمير بلا ريب يعود إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم .
والجنود الذين أيد الله تعالى بهم نبيه – ما وقت التأييد ؟ ، قالوا:يحتمل أن يكون ذلك التأييد هو حراسة الملائكة لرسول الله وهو في الغار ، فهو كان في حراسة الله تعالى ، وأمر ملائكته الأطهار بحراسته ، وحمايته من أعدائه ، ويحتمل أن التأييد كان فيما جاء من بعد من حروب ، قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخصوصا غزوة بدر الكبرى ، فقد صرح فيها بتأييد الملائكة .
ونختار الاحتمال الثاني لسببين – أولهما – أن التأييد يكون في معركة حربية ، وكانت بعد الهجرة أول معركة ( بدر الكبرى ) ، - وثانيهما – أن الله تعالى جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا .
وقد وصف الله تعالى بأن هذه الجنود لم يروها ، وإن التعبير عن الملائكة الذين أيدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنود يدل على أن التأييد كان في معركة ، وأقربها بعد الهجرة ، وهي التي انقلب بها ميزان القوى في البلاد العربية ، ذلك أن قريشا كانت لهم القوة في البلاد العربية ، والسلطان الأدبي فيها ، فلما قهروا في بدر ، هبط سلطانهم ، وضعف نفوذهم ، ولذا كانوا بجذع الأنف يحاولون في الغزوات المتتالية إعادته فما استطاعوا إلى ذلك .
و ( الكلمة ) في قوله تعالى:{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى} يراد بها الدولة والقوة ؛ لأن قوة الدولة تجعل كلمتها غير نافذة ، وعبر الله تعالى عنها بالسفلى للدلالة على أنها مغلوبة وفوقها غيرها ، وقد جعلت واقعة بدر كلمة الإسلام هي العليا ، ودولته هي العليا ، وعبر سبحانه وتعالى عن الإسلام بكلمة الله ؛ لأنه دين التوحيد ونبيه مبعوث من الله ، وذلك ببيان للحقيقة ، وتشريف للدين الحنيف .
خلاصة القول أن الله تعالى يبين للذين يقعدون عن الجهاد ولا ينصرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجاهدون بأنهم إن لم ينصروه ، فالله ناصره ، وقد نصره في هجرته ، ولم يمكن المشركين منه ، ثم نصره في حربه مع المشركين ، وأيده بجنود لم يروها حتى صارت كلمته هي العليا ، وكلمة الذين كفروا هي السفلى .
وختم سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى:{ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي قادر غالب يدبر الأمور بحكمته وعلمه ،