/م38
قال عزَّ وجلَّ{ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا} أي إلا تنصروا الرسول الذي استنفركم في سبيل الله على من أرادوا قتاله من أولياء الشيطان ، فسينصره الله بقدرته وتأييده ، كما نصره إذ أجمع المشركون على الفتك به ، وأخرجوه من داره وبلده ، أي اضطروه إلى الخروج والهجرة ولولا ذلك لم يخرج .وقد تكرر في التنزيل ذكر إخراج المشركين للرسول وللمؤمنين المهاجرين من ديارهم بغير حق ، وليس المراد منه أنهم تولوا طردهم وإخراجهم مجتمعين ولا متفرقين ؛ فإن أكثرهم خرج مستخفياً كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه رضي الله عنه ، أو تقدير الكلام:إلا تنصروه فقد أوجب الله له النصر في كل حال وكل وقت حتى نصره في ذلك الوقت الذي لم يكن معه جيش ولا أنصار منكم بل حال كونه:
{ ثاني اثنين} أي أحدهما ، فإن مثل هذا التعبير لا يعتبر فيه الأولية ولا الأولوية ؛ لأن كل واحد منهما ثان للآخر ، ومثله ثالث ثلاثة ، ورابع أربعة ، لا معنى له إلا أنه واحد من ثلاثة أو أربعة به تم هذا العدد .على أن الترتيب فيه إنما يكون بالزمان أو المكان ، وهو لا يدل على تفضيل الأول على الثاني ولا الثالث أو الرابع على من قبله ، وسيأتي في حديث الشيخين:( ما ظنك باثنين الله ثالثهما{[1571]} ) ؟
{ إذ هما في الغار} أي في ذلك الوقت الذي كان فيه الاثنان في الغار المعروف عندكم ، وهو غار جبل ثور .
{ إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} أي إذ كان يقول لصاحبه الذي هو ثانيه -وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه- حين رأى منه أمارة الحزن والجزع ، أو كلما سمع منه كلمة تدل على الخوف والفزع: "لا تحزن ".الحزن انفعال نفسي اضطراري يراد بالنهي عنه مجاهدته وعدم توطين النفس عليه ، والنهي عن الحزن -وهو تألم النفس مما وقع- يستلزم النهي عن الخوف مما يتوقع ، وقد عبر عن الماضي بصيغة الاستقبال «يقول » للدلالة على التكرار المستفاد من بعض الروايات ، ولاستحضار صورة ما كان في ذلك الزمان والمكان ليتمثل المخاطبون ما كان لها من عظمة الشأن ، وعلل هذا النهي بقوله:{ إن الله معنا} أي لا تحزن لأن الله معنا بالنصر والمعونة ، والحفظ والعصمة ، والتأييد والرحمة ، ومن كان الله تعالى معه بعزته التي لا تغلب ، وقدرته التي لا تقهر ، ورحمته التي قام ويقوم بها كل شيء فهو حقيق بأن لا يستسلم لحزن ولا خوف ، وهذا النوع من المعية الربانية أعلى من معيته سبحانه للمتقين والمحسنين في قوله:{ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [ النحل:127 ، 128] ، والفرق بينهما أن المعية في آية سورة النحل لجماعة المتقين المجتنبين لما يجب تركه ، والمحسنين لما يجب فعله ، فهي معللة بوصف مشتق هو مقتضى سنة الله في عالم الأسباب لكل من كان كذلك ، وإن كان الخطاب في النهي عن الحزن قبلها للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأما المعية هنا فهي لذات الرسول وذات صاحبه ، غير مقيدة بوصف هو عمل لها ؛ بل هي خاصة برسوله وصاحبه من حيث هو صاحبه ، مكفولة بالتأييد بالآيات ، وخوارق العادات ، وكبر العنايات ، إذ ليس المقام بمقام سنن الله في الأسباب والمسببات ، التي يوفق لها المتقين والمحسنين المتقنين للأعمال .
يعلم هذا التفاوت بين النوعين من الحق الواقع إن لم يعلم من اللفظ وحده ، وهي من قبيل قوله تعالى لموسى وهارون إذ أرسلهما إلى فرعون فأظهرا الخوف من بطشه بهما{ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [ طه:45 ، 46] ، وقد كان خاتم النبيين أكمل منهما إذ لم يخف من قومه الخارجين في طلبه للفتك به كما سنذكره ، وكان للصديق الأكبر أسوة حسنة بهما إذ خاف على خليله وصفيه الذي شرفه الله في ذلك اليوم الفذ بصحبته ، وإنما نهاه صلى الله عليه وسلم عن الحزن لا عن الخوف ، ونهى الله موسى وهارون عن الخوف لا عن الحزن ، لأن الحزن تألم النفس من أمر واقع ، وقد كان نهيه صلى الله عليه وسلم إياه عنه في الوقت الذي أدرك المشركون فيه الغار بالفعل .
روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أنس قال:حدثني أبو بكر قال:كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين فقلت:يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه .فقال عليه الصلاة والسلام:( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ){[1572]} ؟
وأما الخوف فهو انفعال النفس من أمر متوقع ، وقد نهى الله رسوليه عنه قبل وقوع سببه وهو لقاء فرعون ودعوته إلى ما أمرهما به .والنهي عن الحزن يستلزم النهي عن الخوف كما تقدم ، وقد كان الصديق خائفا وحزنا كما تدل عليه الروايات ، وهو مقتضى طبع الإنسان .
وحاصل المعنى إلا تنصروه بالنفر لما استنفركم له فإن الله تعالى قد ضمن له النصر ، فهو ينصره كما نصره في ذلك الوقت الذي اضطره المشركون فيه بتألبهم عليه واجتماع كلمتهم على الفتك به في ذلك الوقت الذي كان فيه ثاني اثنين في الغار ، أعزلين غير مستعدين للدفاع ، وكان صاحبه فيه قد ساوره الحزن والجزع في ذلك الوقت الذي كان يقول له فيه -وهو آمن مطمئن بوعد الله وتأييده ومعيته الخاصة-:{ لا تحزن إن الله معنا} ، فنحن غير مكلفين بشيء من الأسباب أكثر مما فعلنا من استخفائنا هنا .وقد بينا في الكلام على غزوة بدر من تفسير سورة الأنفال المقارنة بين حالي الرسول الأعظم والصديق الأكبر هنالك ؛ إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستغيث ربه ، ويستنجزه وعده ، وكان الصديق رضي الله عنه يسليه ويهون الأمر عليه ، على خلاف حالهما في الغار ، وأثبتنا أن حاله صلى الله عليه وسلم في الموضعين كان الأكمل الأفضل ، إذ أعطى حال الأخذ بسنن الله في الأسباب والمسببات في بدر حقه ، وأعطى حال التوكل المحض في الغار حقه{[1573]} .
فتكرار الظرف «إذ » في المواضع الثلاثة مبدلاً بعضها من بعض في غاية البلاغة ، به يتجلى تأييده تعالى لرسوله أكمل التجلي ، فهو يذكرهم بوقت خروجه صلى الله عليه وسلم مهاجرا مع صاحبه بما كان من قريش من شدة الضغط والاضطهاد ، وقد تقدم تفصيله في تفسير{ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [ الأنفال:30] من سورة الأنفال ، وسيعاد مختصرا في هذا السياق .ويتلوه تذكيرهم بإيوائه مع صاحبه إلى الغار لا يملكان من أسباب الدفاع عن أنفسهما شيئا .ثم يخص بالذكر وقت قوله لصاحبه{ لا تحزن إن الله معنا} ، أي أنه كان هو الذي يسلي صاحبه ويثبته لا أنه كان يتثبت به ، [ وهكذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في كل وقت يشتد فيه القتال أيضا] ، وكون سبب ذلك وعلته إيمانه الأكمل بمعية الله عزَّ وجلَّ الخاصة .فالعبرة لهم في هذه الذكريات الثلاث أن الله تعالى غني عن نفرهم مع رسوله بقدرته وعزته ، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم غني عن نصرهم له بنصره عزَّ وجلَّ وتأييده ، وبقدرته على تسخير غيرهم له من جنوده وعباده ، وقد بين تعالى أثر ذلك وعاقبته بقوله:
{ فأنزل الله سكينته عليه} أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله:{ فأنزل الله سكينته عليه} قال:على أبي بكر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة معه .وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت{ فأنزل الله سكينته} قال:على أبي بكر ، فأما النبي فقد كانت عليه السكينة .وقد أخذ بهذه الرواية بعض مفسري اللغة والمعقول ووضحوا ما فيها من التعليل بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحدث له وقتئذ اضطراب ولا خوف ولا حزن ، وقواها بعضهم بأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور وهو الصاحب ، وليس هذا بشيء .وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن إنزال السكينة عليه لا يقتضي أن يكون خائفا أو مضطربا أو منزعجا ، وهذا ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها بالفاء الدال على وقوعه بعده وترتبه عليه ، وأن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه ( لا تحزن ) ، ولكنهم قووه بأن ما عطف عليه من قوله:
{ وأيده بجنود لم تروها} لا يصح إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بهؤلاء الجنود الملائكة ؛ لأن الأصل في المعطوفات التعانق وعدم التفكك .وأجاب عنه الآخذون بقول ابن عباس ومجاهد:أولا:بأن التأييد بالجنود معطوف على قوله:{ فقد نصره الله} لا على{ فأنزل الله سكينته} .ثانيا:بأن تفكك الضمائر لا يضر إذا كان المراد من كل منها ظاهراً لا اشتباه فيه .وثالثا:بأنه لا مانع من جعل التأييد لأبي بكر ، نقله الآلوسي وقال:كما يدل عليه ما أخرجه ابن مردويه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر:( إن الله تعالى أنزل سكينته عليك وأيدك ) الخ .وقال بعض المفسرين:إن المراد بهذه الجنود ما أيده الله تعالى به يوم بدر والأحزاب وحنين ، وقال بعضهم:بل المراد أنه أيده بملائكة في حال الهجرة يسترونه هو وصاحبه عن أعين الكفار ويصرفونها عنهما ، فقد خرج من داره والشبان المتواطئون على قتله وقوف ولم ينظروه .وإننا نرجع إلى سائر ما في التنزيل من ذكر إنزال السكينة والتأييد بالملائكة لنستمد منها فهم ما في هذه الآية .
أما إنزال السكينة فذكر في ثلاث آيات فقط:أولاها:الآية الرابعة من سورة الفتح ، والثانية:الآية السادسة والعشرون منها ، وكان نزول السورة بعد صلح الحديبية الذي فتن فيه المؤمنون واضطربت قلوبهم بما ساءهم من شروطه التي عدوها إهانة لهم وفوزاً للمشركين ، وأمرها مشهور ، فكان من عناية الله تعالى بهم أن ثبت قلوبهم ومكنهم من فتح خيبر ، وأنزل سورة الفتح مبيناً فيها حكم ذلك الصلح وفوائده ، وامتن بذلك على رسوله وعليهم بقوله:{ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً}إلى قوله{ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً} [ الفتح:1- 4] ، فهذه سكينة خاصة بالمؤمنين ، بين حكمتها العليم الحكيم ، وفيها إشارة إلى جنود الملائكة لا تصريح .
ثم قال بعد ما تقدمت الإشارة إليه من حكم ذلك الصلح ، وما أعقبه من الفتح:{ إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً} [ الفتح:26] ، الأشهر في تفسير هذه الحمية أنها ما أباه المشركون في كتاب الصلح من بدئه بكلمة بسم الله الرحمن الرحيم ، ومن وصف محمد صلى الله عليه وسلم فيه برسول الله وتعصبهم لما كان من عادة الجاهلية وهو:باسمك اللهم ، وهذا مما ساء رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ، كما ساءه كراهة جمهور المسلمين الأعظم لهذا الصلح ، ولكنه لم يكن ليضيع بذلك صلحا عظيما كان أول فتح لباب حرية دعوة الإسلام في المشركين ، بوضع الحرب عشر سنين ، فأنزل الله سكينته عليه وألهمه قبول شروطهم ، وأنزلها على المؤمنين بعد أن هموا بمعارضته صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بالتحلل من عمرتهم فتلبثوا حتى خشي عليهم الهلاك ، واستشار في ذلك زوجه أم سلمة فأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويأمر حلاقه بحلق شعره ، ففعل فاقتدوا به ، بما أنزل الله عليهم من سكينته .
والآية [ الثالثة] هي ما تقدم في هذه السورة في سياق غزوة حنين إذ راع المسلمين رشق المشركين إياهم بالنبل ، فانهزم المنافقون والمؤلفة قلوبهم ، واضطرب جمهور المسلمين بهزيمتهم فولوا مدبرين ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه الكفار مع عدد قليل صار يكثر بعلمهم بموقفه ، وقد حزن قلبه لتوليهم{ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها} [ التوبة:26] ، وما العهد بتفسيرها ببعيد ، فهذه سكينته مشتركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين سكن بها ما عرض له صلى الله عليه وسلم من تأثير هزيمتهم ، وسكن ما عرض لهم من الاضطراب لهزيمة المنافقين والمؤلفة قلوبهم كما تقدم .
وأما ذكر الجنود التي وصفها تعالى بقوله« لم تروها » فقد جاء في هاتين الآيتين من سورة براءة ، أي آية غزوة حنين وآية الغار من سياق الهجرة .وجاء في الكلام على غزوة الأحزاب من السورة التي سميت باسمها وهو{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} [ الأحزاب:9] ، وقد كانت هذه الجنود والجنود التي أرسلت في يوم حنين لتخذيل المشركين وتأييد المؤمنين ، وفي معناها قوله تعالى في الكلام على غزوة بدر:{ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [ الأنفال:9] ، فهذه الملائكة نزلت لإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وتأييد المؤمنين ، وتثبيت قلوبهم كما بينه تعالى بقوله:{ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن به قلوبكم} [ الأنفال:10] إلى قوله:{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [ الأنفال:12] ، وراجع تفسير السياق [ في ج 9 تفسير] ، وفيه ذكر آيات سورة آل عمران التي نزلت في الكلام على غزوة أحد .فإذا كانت الملائكة في هذه المواقع كلها نزلت لتأييد المؤمنين على المشركين وتخذيل هؤلاء ، وكان النائب عن جميع المؤمنين والحال محلهم في خدمة رسوله يوم الهجرة هو صاحبه الأول الذي اختاره عليهم كلهم في ذلك اليوم العظيم فأي بعد في أن يكون التأييد المرافق لإنزال السكينة له لحلوله محلهم كلهم ؟ ومن المعلوم أنه لم يكن له هذا إلا بالتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما أن جميع ما أيد به تعالى سائر أصحاب رسوله في جميع المواطن كان تأييدا له ، وتحقيقا لما وعده الله تعالى من النصر على جميع أعدائه ، وإظهار دينه على الدين كله ، ولذلك قال:
{ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} في الآية احتمالان:أحدهما أن يكون المراد بكلمة الذين كفروا كلمة الشرك والكفر ، وبكلمة الله كلمة التوحيد وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعليه أهل التفسير المأثور ، ووجهه أن عداوة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت لأجل دعوته إلى التوحيد الخالص من جميع شوائب الشرك وخرافات الوثنية ، ولذلك قام أبو سفيان عند ظهور المشركين في أحد فقال رافعا صوته ليسمع المسلمون:أعل هبل ، أعل هبل .وهبل صنمهم الأكبر ، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يجاب ( الله أعلى وأجل ) ، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن الرجل يقاتل غضبا وحمية ، ويقاتل رياء ، وفي رواية للمغنم ، وللذكر ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال:( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ){[1574]} .
والاحتمال الثاني أن يكون المراد بكلمة الذين كفروا ما أجمعوه بعد التشاور في دار الندوة من الفتك به صلى الله عليه وسلم والقضاء على دعوته وهو ما تقدم في سورة الأنفال من قوله تعالى:{ وإذ يمكر بك الذين كفروا} [ الأنفال:30] الخ ، ويكون المراد بكلمة الله ما قضت به إرادته ومضت به سنته من نصر رسله ، وبينه في مثل قوله:{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} [ الصافات:171- 173] وقوله:{ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [ المجادلة:21] فهذه كلمة الله الإرادية القدرية التي كان من مقتضاها وعده لرسوله الأعظم بالنصر .وفسر بعضهم كلمته هنا بما وعده من إحباط كيدهم ورد مكرهم في نحورهم وهو قوله في تتمة الآية{ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [ الأنفال:30] ، وما قلناه هو الأصل والقول الفصل ، وهذا مبني عليه .
وقد قرأ الجمهور[ وكلمة الله] بالرفع لإفادة أنها العليا المرفوعة بذاتها لا بجعل وتصيير ، ولا كسب وتدبير ، وقرأها يعقوب بالنصب .والمراد من القراءتين معا أنها هي العليا بالذات ثم بما يكون من تأييد الله لأهلها القائمين بحقوقها بجعلهم بها أعلى من غيرهم كما قال:{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [ آل عمران:139] ، وبجعلها بهم ظاهرة بالعلم والعمل تعلو كل ما يخالفها عند غيرهم .فإن كان المراد بها ما تعلقت به إرادته تعالى ومضت به سنته من نصر رسله وإظهار دينه[ وهي كلمة التكوين] فالأمر ظاهر لأن ما تتعلق مشيئته تعالى به كائن لا محالة لا يوجد ما يعارضه فيعلو عليه أو يساويه ، وكذلك إن أريد بها الخبر الإلهي بهذا النصر والوعد به الذي هو بيان لهذه السنة التي هي من متعلقات صفة الإرادة ، بناء على أنه مما أوحاه إليهم ، ومنه قوله تعالى:{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} [ غافر:51] الخ{ قوله الحق ..}{ ولن يخلف الله وعده} [ الحج:47] ، والخبر والوعد من متعلقات صفة الكلام .فكلمة التكوين الإرادية وكلمة التكليف الخبرية متحدتان في هذا الموضوع .
وأما على القول بأن المراد بها كلمة التوحيد أو دينه تعالى المبني على أساس توحيده فالنظر فيها من وجهين:
أحدهما:مضمون الكلمة في الواقع ، وهو وحدانيته تعالى ، وهذه حقيقة قطعية قامت عليها البراهين ، وكذا إن أريد بها هذا الدين عقائده وأحكامه وآدابه ؛ إذ يقال:إنه كلمة التكليف أو كلماته ، فهذه من حيث كونها من متعلقات صفة الكلام الإلهية لها صفة العليا بياناً وبرهاناً وحكمة ورحمة وفضلاً ، ولا بد من تمامها صدقاً في الإخبار وعدلاً في الأحكام ، كما قال تعالى في سورة الأنعام:{ وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [ الأنعام:116] .
والوجه الثاني:إقامة المكلفين لها بمعنييها ، وهي تختلف باختلاف أحوالهم في العلم والإيمان والأخلاق ، وما يترتب عليها من الأعمال ، فمن هذا الوجه قد تخفى علويتها على الناس في بعض الأحيان .إذ ينظرون إليها في صفات المدعين لها وأعمالهم لا في ذاتها ، وقد يكون هؤلاء غير قائمين بها ولا مقيمين لها .ومن عجائب ما روي لنا من إدراك بعض الإفرنج لعلوية كتاب الله تعالى بسعة علمه وعقله أن عاهل الألمان الأخير قال لشيخ الإسلام في الحكومة العثمانية لما زار الاستانة في أثناء الحرب الكبرى:يجب عليكموأنتم دولة الخلافة الإسلاميةأن تفسروا هذا القرآن تفسيرا تظهر به علويته ! ! ! كما أدرك هذه العلوية الوليد بن المغيرة من كبراء مشركي قريش بذكائه ودقة فهمه وبلاغته إذ كان مما قاله فيه:وإنه ليعلو ولا يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته .وراجع ما قلناه في تفسير{ ليظهره على الدين كله} [ التوبة:33] من هذه السورة وما هو ببعيد .
وأما كلمة الذين كفروا فقد كانت لا مقابل ولا معارض لها قبل الإسلام من حيث القيام بها لتوصف بالوصف اللائق بها ، وهو السفلية ، سواء أريد بها كلمة الشرك أو كلمة الحكم ، فقد كان لأهلها السيادة في بلاد العرب حتى مكة المكرمة ، ودنسوا بيت الله بأوثانهم ، فأذل الله أهلها وأزال سيادتهم بظهور الإسلام بعد كفاح معروف ، وإن أريد بها تقريرهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر ظاهر أيضا .وكل من الأمرين حصل بجعل الله وتدبيره ثم بكسب المؤمنين وجهادهم .وأما كلمة الكفر في نفسها ، وبصرف النظر عن تلبس بعض الشعوب أو القبائل بها ، فلا حقيقة لها .أعني أن الشرك لا حقيقة لمضمونه في الوجود وإنما هو دعاوى لفظية صادرة عن وساوس شيطانية خيالية ، كما قال تعالى:{ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان} [ الأعراف:71] .
وقد ضرب الله المثل للكلمتين وأثرهما في الوجود قوله في سورة إبراهيم عليه السلام:{ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} [ إبراهيم:27- 29] وقد ختم الله هذه الآية بقوله:{ والله عزيز حكيم} ، العزيز الممتنع الغالب ، والله هو الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، والحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها ، وقد نصر رسوله بعزته ، وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته ، وأذل كل من ناوأه وناوأ المتقين من أمته .
/خ40