التّفسير
المدد الإلهي للرّسول في أشد اللحظات:
كان الكلام في الآيات المتقدمة عن موضوع الجهاد ومواجهة العدوّ ،وكما أشرنا فقد جاء الكلام عن الجهاد مؤكّداً بعدّة طرق ،من ضمنها أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أنّكم إذا تقاعستم من الجهاد ونصرة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) فستذهب دعوته والإِسلام أدرَاج الرياح .
فالآية محل البحث تعقّب على ما سبق لتقول: ( إلاّ تنصروه فقد نصره الله ){[1633]} .
وكان ذلك عندما تآمر مشركو مكّة على اغتيال النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقتله ،وقد مرّ بيان ذلك في ذيل الآية ( 30 ) من سورة الأنفال بالتفصيل ،حيث قرّروا بعد مداولات كثيرة أن يختاروا من كل قبيلة من قبائل العرب رجلا مسلّحاً ويحاصروا دار النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليلا ،وأن يهجموا عليه الغداة ويحملوا عليه حملَة رجل واحد فيقطعوه بسيوفهم .
ولكن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) اطّلعبأمر اللهعلى هذه المكيدة ،فتهيأ للخروج من ( مكّة ) والهجرة إلى ( المدينة ) إلاّ أنّه توجه نحو ( غار ثور ) الذي يقع جنوب مكّة وفي الجهة المخالفة لجادة المدينة واختبأ فيه ،وكان معه ( أبو بكر ) في هجرته هذه .
وقد سعى الأعداء سعياً حثيثاً للعثور على النّبي ،إلاّ أنّهم عادوا آيسين ،وبعد ثلاثة أيّام من اختباء النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصاحبه في الغار واطمئنانه من رجوع العدوّ توجه ليلا نحو المدينة ( في غير الطريق المطرّق ) وبعد بضعة أيّام وصل( صلى الله عليه وآله وسلم )المدينة سالماً ،وبدأت مرحلة جديدة من تأريخ الإِسلام هناك .
فالآية آنفة الذكر تشير إِلى أشدّ اللحظات حرجاً في هذا السَفَر التاريخي ،فتقول: ( إِذْ أخرجه الذين كفروا ) وبالطبع فإنّهم لم يريدوا إِخراجه بل أرادوا قتله ،لكن لما كانت نتيجة المؤامرة خروج النّبي من مكّة فراراً منهم ،فقد نسبت الآية إِخراجه إِليهم .
ثمّ تقول: كان ذلك في حال هو ( ثاني اثنين ) .
وهذا التعبير إِشارة إِلى أنّه لم يكن معه في هذا السفر الشاق إِلاّ رجل واحد ،وهو أبو بكر ( إِذ هما في الغار ) أي غار ثور ،فاضطرب أبو بكر وحزن فأخذ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) يسرّي عنه ،وكما تقول الآية: ( إِذ يقول لصاحبه لا تحزن إِنّ الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها ) .
ولعل هذه الجنود الغيبيّة هي الملائكة التي حفظت النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في سفره الشاق المخيف ،أو الملائكة التي نصرته في معركتي بدر وحنين وأضرابهما .
( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ) .
وهي إشارة إلى أنّ مؤامراتهم قد باءت بالخيبة والفشل وحبطت أعمالهم وآراؤهم ،وشعّ نور الله في كل مكان ،وكان الانتصار في كل موطن حليف محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ولم لا يكون الأمر كذلك ( والله عزيز حكيم ) ؟
فبعزته وقدرته نصر نبيّه ،وبحكمته أرشده سبل الخير والتوفيق والنجاح .
قصّة صاحب النّبي في الغار:
هناك كلام طويل بين مفسّري الشيعة وأهل السنة في شأن صحبة أبي بكر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في سفره وهجرته ،وما جاءت من إشارات مغلقة في شأنه في الآية آنفاً .فمنهم مَن أفرط ،ومنهم من فرّط .
فالفخر الرازي في تفسيره سعى بتعصبه الخاص أن يستنبط من هذه الآية اثنتى عشرة فضيلة !لأبي بكر ،ومن أجل تكثير عدد فضائله أخذ يفصّل ويسهّب بشكل يطول البحث فيه ممّا يتلف علينا الوقت الكثير .
وعلى العكس من الفخر الرازي هناك من يصرّ على استنباط صفات ذميمة لأبي بكر من سياق الآية .
وينبغي أن نعرفأوّلاهل تدل كلمة «الصاحب » على الفضيلة ؟والظاهر أنّها ليست كذلك ،لأنّ الصاحب في اللغة تدلّ على الجليس أو الملازم للمسافر بشكل مطلق ،سواء كان صالحاً أم طالحاً ،كما نقرأ في الآية ( 37 ) من سورة الكهف عن محاورة رجلين فيما بينَهما ،أحدهما مؤمن والآخر كافر ( قال له صاحبه أكفرت بالذي خلقك من تراب ) ؟!
كما يصرّ بعضهم على أنّ مرجع الضمير من «عليه » في قوله تعالى ( فأنزل الله سكينته عليه ) يعود على أبي بكر ،لأنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن بحاجة إِلى السكينة ،فنزول السكينة إِذن كان على صاحبه ،أي أبي بكر .
إِلاّ أنّه مع الالتفات إِلى الجملة التي تليها ( وأيّده بجنود لم تروها ) ومع ملاحظة اتحاد المرجع في الضمائر ،يتّضح أن الضمير في «عليه » يعود على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )أيضاً ،ومن الخطأ أن نتصور بأنّ السكينة إنّما هي خاصّة في مواطن الحزن والأسى ،بل ورد في القرآنكثيراًالتعبير بنزول السكينة على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )وذلك حين يواجه الشدائد والصعاب ،ومن ذلك ما جاء في الآية ( 26 ) من هذه السورة أيضاً في شأن معركة حنين ( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) .
كما نقرأ في الآية ( 26 ) من سورة الفتح أيضاً ( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) مع أنّه لم يَرِدْ في الجمل والتعابير المتقدمة على هاتين الجملتين أي شيء من الحزن وما إِلى ذلك ،وإنّما ورد التعبير عن مواجهة الصعاب والتواء الحوادث ...
وعلى كل حال ،فإنّ القرآن يدلّ أن نزول السكينة إنّما يكون عند الشدائد ،وممّا لا ريب فيه أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يواجه اللحظات الصعبة وهو في ( غار ثور ) !
والأعجب من كل ما تقدم أن بعضاً قال: بأنّ التعبير ( وأيده بجنود لم تروها )يعود على أبي بكر .مع أنّ جميع المحاور في هذه الآية تدور حول نصرة الله نبيّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،والقرآن يريد أن يكشف أنّ النّبي ليس وحده ،وإذا لم ينصره أحد من أصحابه وجماعته ،فإنّ الله سينصره .فكيف يمكن لأحد أن يترك الشخص الذي تدور حوله بحوث الآية ،ويتّجه نحو شخص ثانوي وتبعي في منظور الآية ؟!وهذا يَدلّ على أن التعصب بلغ حدّاً بأصحابه ،بحيث منعهم حتى من الالتفات إلى معنى الآية .