ومن نعم الله ألا يخرجوا مع المجاهدين .
قال تعالى في بيان أن من الخير ألا يخرجوا وأنهم ما أرادوا الخروج:
وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( 46 ) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 47 ) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( 48 ) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( 49 ) .
هذه الآيات وما يليها في شأن المنافقين الذين قعدوا متلمسين الأعذار وهي كاذبة – والنفاق سوسة المجتمعات ، ينخر في عظامها – ولقد حاولوا إفساد الجماعة الإسلامية ، ولكن النور المحمدي كشف ظلماتهم .
وفي هذه الآيات يبين سبحانه مضارهم في الحرب إن خرجوا ، ولكن النفاق لا يلتقي مع مخاطر الجهاد ، فلم يخرجوا وكان خيرا كما أشرنا فقال تعالى وقد ثبطهم الله عن الخروج لأنه كره انبعاثهم ، فقال تعالى:{ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} .
إن الله تعالى عتب على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن أذن لهم عندما استأذنوا ، ولو لم يأذن لكشف أمرهم ، وتبين أنهم كاذبون في ادعاء العذر ولا عذر لهم ، لأنهم لم يريدوا الخروج ابتداء ، وأكد الله تعالى عدم قصدهم الخروج ، فقال:{ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ} ، لبدت أماراته ، فأعدوا العدة من إعداد الكراع ( 1 ){[1237]} والسلاح ، وما تحتاج إليه حرب شديدة فيها ملاقاة الرومان الذين كانوا أقوى دولة في ذلك الإبان ، ولكن لم يعدوا عدة ، فلم يكونوا على نية الخروج ، وأظهروا ما في مقصدهم باعتذارهم ، وكان ذلك خيرا للمسلمين ، وكره الله تعالى أن يخرجوا ، فقال تعالى:{ وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ} ، ومعنى الاستدراك أنه منع لوهم إرادة الله – تعالى – خروجهم ؛ لأن مؤدى إعلانه على عدم خروجهم قد يوهم إرادة الله – تعالى – خروجهم ، فنفاها سبحانه بهذا الاستدراك ، فقال:{ وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ} والانبعاث النهوض للخروج مع المجاهدين ، وكراهية الله تعالى لخروجهم لما علم سبحانه أنهم يريدون الخبال والاضطراب للمؤمنين ، كما تدل على ذلك الآيات التالية ، وكما دلت على ذلك الأمور الكثيرة التي كانت تقع بإثارة الفتنة منهم ، ولكن كانوا كلما أوقدوا نارا لفتنة أطفأها الله سبحانه وتعالى .
{ فثبطهم} أي خذلهم وأوقع في نفوسهم نزوع الكسل والضعف ، وأزال رغبتهم في النهوض إلى النفير مع جيش الإيمان ، وما ذلك إلا للمصلحة المترتبة على منعهم من الخروج ، فما أريد التثبيط لذاته ، ولكن أريد ما يترتب عليه من حماية جيش الإيمان من الفتن يبثونها فيه ، وإثارة الخلاف ، إن سنحت لهم أسبابه ولا يضعف الجيش إلا للنزاع ، كما قال تعالى:{. . . . . ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا . . . . ( 46 )} ( الأنفال ) .
فكانت المصلحة في ألا يخرجوا ،{ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} ، ( قيل ) بالبناء لمفعول ، وأسند إلى المفعول لتعدد عوامل التخذيل التي كانت في مضمون القول ، فجنبهم ، وإرادة الشر بالمؤمنين وبعد الشقة ، وكون الغاية فيه بعيدة ، وفساد نفوسهم ، وتخاذلهم عن نصرة الحق ، وكراهية الإيمان وأهله ، كل هذه عوامل يمكن أن تكون الفاعل الذي استعيض عنه بالمفعول ، والمفعول المقول ، وهو اقعدوا مع القاعدين . هذه العوامل التي أشرنا إليها انتهت بهم إلى أن كان لسان حالهم يقول:{ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} .
قولهم لأنفسهم{ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} ، قال فيه الزمخشري:هو ذم لهم وتعجيز ، وإلحاقهم بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت وهم القاعدون ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، بينه الله تعالى فقال:{ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف . . . . . . . ( 87 )} .
وقد علق الناصر في حاشيته على الكشاف فقال:وهذا من تنبيهاته الحسنة ، ونزيدها بسطا فنقول:لو قيل ( اقعدوا )مقتصرا عليه لم يعد سوى أمرهم بالقعود ، وكذا لو قال:كونوا مع القاعدين ، ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد الموسومين بهذه السمة إلا من عبارة الآية ، ولقد جاء على لسان فرعون في إيعاد نبي الله موسى عليه السلام{. . .لأجعلنك من المسجونين ( 29 )} ( الشعراء ) ، ولم يقل لأجعلنك مسجونا ، لمثل هذه النكتة من البلاغة .
هذا ، وإن الله تعالى عاتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإذنه لهم بالقعود مع أن الله تعالى كره انبعاثهم ، لأنه سبحانه كان يريد أن يتبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم حالهم ، حتى يتبين له الصادق من الكاذب ، وأنهم لا يخرجون .