وإن المنافقين يتربصون الدوائر بالمؤمنين بأن تتوالى ، ولا يتوالى ما يسرهم ؛ لأنهم أعداء كارهون ، والعدو الكاره لا يتمنى لعدوه ما يسره ، بل يتمنى له المكروه ، ولذا قال تعالى:
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ( 52 )} .
قلنا إن المنافقين لا يندمجون في جماعة يعيشون فيها ، بل يكونون في جانب ، ومن معهم في جانب آخر ، كما يفعل اليهود الذين مردوا على النفاق وأجادوه .
وكذلك كان اليهود بالمدينة الذين كانوا رأس النفاق فيها ، فهم يعيشون مع المؤمنين وليست قلوبهم معهم ، بل هواهم مع غيرهم أيا كان ذلك الذي يغاير جماعة المؤمنين كتابيا كان أو مشركا ، فهم لا يعيشون مع جماعتهم إلا وجانبهم لغيرهم ؛ لأنهم لم يذوقوا طعم الاندماج مع الناس والإخلاص لهم ، ولذا يعيشون مع المؤمنين ويتربصون بهم الدوائر .
ويقول الله تعالى آمرا نبيه:{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} يأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم هذا القول ولم يسنده تعالى إلى نفسه ؛ لأنه فوق الجميع ، إنما جعل الرسول يسنده إلى نفسه ؛ لأنه من أحد الفريقين المتربصين وإن كان الله تعالى مع المؤمنين ، والتربص:الانتظار ، والاستفهام للإنكار بمعنى إنكار الوقوع بدليل الاستثناء . والمعنى لا تنتظرون لنا إلا إحدى الحسنيين ، والحسنيان هما:الاستشهاد ، وذلك حسن في ذاته وعند المؤمنين ؛ لأنه ينتهي بهم إلى الجنة ، ونعم الانتهاء . أو النصر ، وهو غاية حسنة عظيمة .
وإن نتيجة التربص لا يهواها المنافقون ، فهم يتربصون الشر والفساد والخبال والاضطراب في جيش المؤمنين رغبة فيما يريدون ، فيبين الله تعالى أن النتيجة تجيء عكس ما يبغون .
ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من ربه ، وباللفظ النازل على النبي من الله رب العالمين:{ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} .
أي نحن معشر المؤمنين ننتظر لكم أحد أمرين أيضا ، وهما أن يصيبكم الله تعالى بعذاب ينزله سبحانه وتعالى بكم كصاعقة من السماء تحرقكم ، أو ريح تقلبكم من الأرض ، أو تموتوا في داركم جاثمين ، وهذا عذاب من عند الله ، وإضافته سبحانه وتعالى إليه ، ينزله من عنده مظهرا لغضبه عليهم الذي يبوءون به ، كما باء من قبل إخوان لهم في النفاق:اليهود ومن يواليهم ، والأمر الثاني عذاب من المؤمنين ينزلونه بتمكين الله تعالى منكم .
و هنا بعض إشارات بيانية .
منها:قوله تعالى:{ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} فعبر ب ( كم ) للإشارة إلى أن ما ينزل بهم عقاب ، في مقابل ما حكى عنهم في قوله تعالى:{ تربصون} .
ومنها قوله تعالى:{ أو بأيدينا} للإشارة إلى القتال الذي يكون بالأيدي التي تبطش ، وذلك إشارة إلى قوة المؤمنين المؤيدة بنصر الله تعالى العزيز الحكيم .
ويقول تعالى:{ فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} الفاء فاء الإفصاح المنبهة عن شرط مقدر ، أي إذا كان هذا امرنا وأمركم في التربص فتربصوا .
وهذه الجملة السامية فيها تهديد لهم بسوء العاقبة بالنسبة لهم ، وبيان حسن العاقبة بالمؤمنين ، والله تعالى بعزته ناصر جنده ، وخاذل عدوه .