لا يقبل الإنفاق من منافق
قال تعالى:
قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 53 ) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ( 54 ) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( 55 ) وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ( 56 ) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ( 57 ) .
إن هذه الآيات الكريمات تبين أمري:احدهما:أن المنافقين في كل العصور يطلون الناس بأموالهم ، ويجبنون دائما ، ويستبدلون بالجهاد المال يدفعونه ، ويحسبون أنه يغنى عن الجهاد والعمل للنصرة وصيانة الحق عن أن يعبث به العابثون .
ثانيهما – أنه لا ثواب إلا مع النية المحتسبة ، والنية لا تكون إلا مع إيمان صادق بالله ورسوله والحق الثابت المبين .
وقد ذكرت الآية الأولى أن إنفاقهم طوعا أو كرها لن يقبل منهم بسبب فسقهم ، وذكرت الآية التالية تفصيل المانع من قبولها ، وذكرت الآية الثالثة أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم في الدنيا والآخرة شيئا . وذكرت الآية الرابعة أنهم يريدون أن يعتقد المؤمنون أنهم منهم ومنضوون في جماعتهم ليخدعوهم فلا يغروهم ، متميزين عنهم تميز الخبيث من الطيب .
يقول تعالى:{ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} المعنى الظاهر وكتاب الله تعالى بين بذاته لا يحتاج إلى بيان ، إن الله تعالى لن يقبل منهم إنفاقهم في الآخرة سواء أنفقوه طائعين أم أكرهوا على الإنفاق ، وسواء أنفقوه كارهين أم أنفقوه راغبين ، فمعنى طوعا ، أي طائعين راغبين في الإنفاق طيبة به نفوسهم أو كارهين غير راغبين ، أو بإكراه أحد ، أو بتورط ، ولا يرضون .
وهذا المعنى ظاهر ، ولكن كيف يخرج الأمر في هذا . وبلا شك لا يقصد الطلب ولا الإباحة ولا الندب ، ولا أي باب من أبواب الطلب وإذن فما سبيله ؟ .
قال القرطبي:إن معناه الشرط ، وجوابه لن يقبل ، وتقدير القول هكذا ، إن تنفقوا لا يقبل منكم سواء كان الإنفاق طوعا أو كرها .
وقال الزمخشري:إن معنى الأمر هنا الإخبار بأنهم لا يقبل منهم ، ويظهر أنه يعود إلى معنى الشرط ، والمؤدى ينتهي إلى أنه لن يقبل الإنفاق ، ومثلوا له بقول كثير عزة ، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى .
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقد بين السبب في منع قبول أموالهم قربات عند الله ، فقال سبحانه:{ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
وجملة{ إنكم} منفصلة عن سابقتها ؛ لأنها تعليل لها ، ولأن الجملة الأولى طلبية ، والثانية خبرية . والفسق هو الخروج ، وهم بالحكم عليهم بأنهم فاسقون يكون محكوما عليهم بأنهم خارجون عن الجماعة بشعورهم ، وإن كانوا فيها بأجسامهم ، وذلك مع كفرهم ، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك الحكم بعدة مؤكدات ، أولها بالجملة الاسمية ، وثانيها ب ( إن ) الحرف الدال على التوكيد ، وثالثها ب ( كان ) الدالة على استمرارهم في الفسق والخروج عن الجماعة وعدم الشعور بشعورها .
ونفى الله تعالى بقوله:{ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ} ظاهره أن الله تعالى لن يجازى عليه جزاء القربات يوم القيامة ؛ لأنهم لم ينووا بها القربات ، وغنما أرادوا ستر جبنهم ونفاقهم ، ليستقيم ادعاؤهم أنهم من المسلمين ، وهم غير مؤمنين ، وشرط النية المأجورة الإيمان ، ولقد قال تعالى عمتا ينفقه الكافرون:{ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ( 117 )} ( آل عمران ) .