/م53
روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الجد بن قيس إلى جهاد الروم قال:إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى افتتن ، ولكن أعينك بمالي .ففيه نزل{ قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم} ، وقد ضعف [ الطبري] هذا القول بالتعبير عنه بقيل ، والحق أن الآية عامة تشمل هذا وغيره ، وأنها نزلت مع غيرها من هذا السياق في أثناء السفر لا عقب قول جد بن قيس ما قاله قبله .
والمعنى:قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين:أنفقوا ما شئتم من أموالكم في الجهاد أو غيره مما أمر الله به في حال الطوع للتقية ، أو الكره خوف العقوبة ، فمهما تنفقوا في الحالين لن يتقبل الله منكم شيئاً منه ، ما دمتم على شك مما جاءكم به الرسول من أمر الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة .
وقيل معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل منهم ما ينفقونه ، ولكن هذا لا يصح على إطلاقه في جميعهم ، لأن مقتضى إجراء أحكام الشريعة عليهم تقتضي وجوب أخذ زكاتهم ونفقاتهم ، إلا أن يوجد مانع خاص في شأن بعضهم ، كما سيأتي في تفسير{ ومنهم من عاهد الله} [ التوبة:75] الآيات .
قال الإمام ابن جرير وتبعه غيره:وخرج قوله:{ أنفقوا طوعاً أو كرهاً] مخرج الأمر ومعناه الخبر .والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها «إن » التي تأتي بمعنى الجزاء ، كما قال جل ثناؤه{ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} [ التوبة:80] فهو في لفظ الأمر ومعناه الخبر ، ومنه قول الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقليّة إن تقلَّتِ{[1580]}
فكذلك قوله:{ أنفقوا طوعاً أو كرهاً} إنما معناه:إن تنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم اه .
{ إنكم كنتم قوما فاسقين} هذا تعليل لعدم قبول نفقاتهم ، ومعناه أن إنفاقكم طائعين أو مكرهين سيان في عدم القبول لأنكم كنتم قوما فاسقين ، و{ إنما يتقبل الله من المتقين} [ المائدة:27] والمراد بالفسوق الخروج من دائرة الإيمان ، الذي هو شرط لقبول الأعمال مع الإخلاص ، وهو كثير الاستعمال في القرآن ، وتخصيصه بالمعاصي من اصطلاح الفقهاء .فليعتبر بهذا منافقو هذا الزمان ، الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ويعلنون أمرها في صحف الأخبار ، ليشتهروا بها في الأقطار ،