/م53
ثم بين تعالى ما في هذا التعليل من الإجمال فقال:{ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} أي وما منعهم قبول نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بالله وصفاته على الوجه الحق ، ومنها الحكمة والتنزه عن العبث في خلق الخلق وهدايتهم وجزائهم على أعمالهم ، وكفرهم برسالة رسوله وما جاء به من البينات والهدى .قرأ الجمهور[ تقبل] بالمثناة الفوقية ، وقرأها حمزة والكسائي بالتحتية ، وتأنيث النفقات لفظي لا حقيقي فيجوز تذكير فعله .
{ ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} ففعلهم لهذين الركنيين من أركان الإسلام ، اللذين هما أظهر آيات الإيمان ، لا يدل على صحة إيمانهم لأنهم يأتونهما رياء وتقية لا إيمانا بوجوبهما ، ولا قصداً إلى تكميل أنفسهم بما شرعهما الله لأجله ، واحتساباً لأجرهما عنده ، أما الصلاة فلا يأتونها إلا وهم كسالى ، أي في حال الكسل والتثاقل منها ، فلا تنشط لها أبدانهم ، ولا تنشرح لها صدورهم ، زاد في سورة النساء{ يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [ النساء:142] ، وقد أمر الله المؤمنين بإقامة الصلاة لا بمجرد الإتيان بصورتها ، ووصفهم بالخشوع فيها ، وهو ينافي الكسل عند القيام إليها ، فعلى كل مسلم أن يحاسب نفسه ليعلم هل صلاته صلاة المؤمنين ، أم صلاة المنافقين ؟
وأما الإنفاق في مصالح الجهاد وغيرها فلا يؤتونه إلا وهم كارهون له ، غير طيبة أنفسهم به ، لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم مضروبة عليهم ، تقوم بها مرافق المؤمنين وهم يعلمون من أنفسهم أنهم ليسوا منهم ، فلا يرون لهم بها نفعاً في الدنيا ، ولا يؤمنون بنفعها لهم في الآخرة .وبما قررناه يندفع إيراد بعضهم أن الكفر وحده كاف في عدم قبول نفقاتهم ، فأي حاجة إلى وصفهم بالكسل عند إتيان الصلاة وكره أداء الزكاة وغيرها من نفقات البر ؟ وتمحل الجواب عنه على مذهب المعتزلة أو الأشعرية ، فإن وصفهما بما ذكر تقرير لكفرهم ودفع للشبهة التي ترد عليه بالصلاة والزكاة كما بيناه .
قال الزمخشري:[ فإن قلت] الكراهية خلاف الطواعية ، وقد جعلهم الله طائعين في قوله:{ طوعاً} ثم وصفهم بأنهم ( لا ينفقون إلا وهم كارهون ) [ قلت]:المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم ، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار ، لا عن رغبة واختيار اه على أنه فسر الكره في الآية الأولى بالإكراه .
والراجح عندي ما قدمته من أن المراد بطوعهم ما كان بقصد التقية لإخفاء كفرهم ، وهو يقتضي كرهه في قلوبهم وعدم إخلاصهم فيه ، وهو ما أثبته لهم في الآية الثانية بصيغة الحصر ، وحاصله أن المراد به طواعية المصلحة أو الطبع ، لا طاعة الشرع ، وقد يقال:إن الترديد بين الطوع والكره في مثل هذا التعبير لا يقتضي إثبات وقوع كل منهما ، وإنما المراد منه أنه مهما يكن الواقع فهي غير مقبولة ، لوجود الكفر المانع من القبول ، ومن أطاع الله ورسوله فيما يسهل عليه وعصاهما فيما يشق عليه فلا يعد مذعناً للأمر والنهي لأنه حكم الله ، ومن لم يكن مذعناً لا يكون مؤمناً ،{ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} [ البقرة:85] ، وقد بايع المؤمنون رسول الله على الطاعة في المنشط والمكره .