/م53
ولما كان أولئك المنافقون من أولي الطول والسعة في الدنيا -كما سيأتي في قوله:{ استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} [ التوبة:86] ، وكان ترف الغنى وطغيانه أقوى أسباب إعراضهم عن آيات الله والتأمل في محاسن الإسلام - بين الله تعالى للمؤمنين سوء عاقبتهم فيه فقال:{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راض به ، فتعجب من حسنه كما قال الزمخشري ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من سمع القول أو بلغه ، والكلام مرتب على ما قبله ، كأنه يقول:إذا كان هذا شأنهم في مظنة ما ينتفعون به من أموالهم ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ، فلا تعجبك أيها الرسول أو أيها السامع أموالهم ولا أولادهم التي هي في نفسها من أكبر النعم وأجلها ، ولا تظن أنهم وقد حرموا من ثوابها في الآخرة قد صفا لهم نعيمها في الدنيا ، وعلل النهي بقوله:{ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} بما يعرض لهم فيها من المنغصات والحسرات ، أما الأموال فإنهم يتعبون في جمعها ، ويحرصون على حفظها ، ويشق عليهم ما ينفقونه منها من زكاة وإعانة على قتال وإنفاق على قريب من المؤمنين ، وأشق منه اعتقادهم أنهم يتركونها بعدهم لمصالح المسلمين ، لأن ورثتهم منهم في الغالب حتى زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبي [ لعنه الله] -كما سيأتي في الآيات التي نزلت في خبر موته على كفره وأعيدت هذه الآية فيها .وأما الأولاد فلأنهم يرونهم قد نشؤوا في الإسلام واطمأنت به قلوبهم ، وأنهم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وكل هذه حسرات في قلوبهم .ولقد كان ثعلبة -الذي عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين ، ثم نقض عهده وأخلف الله ما وعده بعد أن أغناه - أشدهم حسرة بامتناع الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه عن قبول زكاته .
{ وتزهق أنفسهم وهم كافرون} فيعذبون بها في الآخرة أشد مما عذبوا بها في الدنيا بموتهم على كفرهم المحبط لعملهم ، زهوق الأنفس خروجها من الأجساد .وقال بعض المفسرين:هو الخروج بصعوبة ، وفي التنزيل{ وقل جاء الحق وزهق الباطل} [ الإسراء:81] أي هلك واضمحل ، وجعله في الأساس مجازا ، والظاهر أنه من زهق السهم إذا سقط دون الهدف ، وورد زهقت الناقة بمعنى أسرعت ، فالتعبير بالزهوق هنا إما من الأول أي الهلاك وهو الأظهر ، وإما من الإسراع للإشارة إلى أنه لم يبق من أعمارهم إلا القليل حقيقة ، أو من قبيل قوله تعالى فيهم:{ قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً} [ الأحزاب:16] .