وقد يعجب العاجب من أنهم مع نفقاتهم وكفرهم لهم أموال كثيرة وبنون ، إنما هذا استدراج كما قال تعالى:{. . . . . . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( 182 )} ( الأعراف ) ، ولذا قال تعالى:
{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( 55 )} .
الفاء للإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر يقتضيه سياق البيان ، أي إن كانت هذه الأموال لا ينفقونها في سبيل الله فلماذا يعطونها ، فقال تعالى:{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} الآية ، أي لا يثير عجبك كثرة أموالهم وأولادهم وأنصارهم ، مما أعطوا مع كفرهم ونفاقهم واستهانتهم بالحق والتنفير منه ، وتأليب المبطلين . لا يغرنك هذا ، كما قال تعالى:{ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ( 196 ) متاع قليل . . . . ( 197 )} ( آل عمران ) وكما قال:{ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لفتنتهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ( 131 )} ( طه ) ، إنما هي فتنة لهم واستدراج ، كما قال تعالى:{ والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( 182 ) وأملي لهم إن كيدي متين ( 183 )} ( الأعراف ) .
ولذا قال تعالى:{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم} أي يريد إعطاءهم وتمكينهم ، وحذف المفعول ليشمل كل متع الدنيا من مال وسلطان ، وقدرة على التحايل ، وغير ذلك ليعذبهم ، أي لينصرفوا مغرورين مخدوعين ، فيكون من بعد ذلك العذاب الأليم في الآخرة ، ولتكون لهم عذابا في الدنيا بالافتتان بها ، ومن وراء فتنتهم يكون الحرمان بالمصائب والنكبات ، وأن تكون مغانم للمؤمنين إذا اشتدت شديدة الحرب عليهم ، والضياع والحرمان ، فالمال ليس متعة خالصة ، ولكنه تحمل لهمومه ، فأكلة الربا الذين يستكثرون به من الأموال في هم دائم ، حتى أنه لا يرى ربوى إلا ومعه سقام الجسم والنفس ، كما قال تعالى:{ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس . . . . ( 275 )} ( البقرة ) ، وذلك هم واصب نشأ من ذات المال وأصاب النفس{ وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} أي يموتون ، وقد ضاقت نفوسهم من هموم الأموال وما فيها ،{ وَهُمْ كَافِرُونَ} جاحدون الحق ، فتكون نفوسهم قد حرمت متعة الدنيا بمصائب الأموال والبنين ومفاتنهم ، وحرموا راحة الإيمان ، واطمئنان الحق ، فخسروا الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين .
ولقد قال تعالى:{ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( 55 ) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( 56 )} ( المؤمنون ) وإنهم لنفاقهم يبتعدون بقلوبهم عنكم ، شاعرين بأنكم نافرون منهم غير واثقين يا معشر المؤمنين ، وكلما كان النفور بسبب ما تعرفونه من لحن أقوالهم ، كلما شعروا بذلك أحسوا بأنهم لا يستطيعون خديعتكم ، ولذلك يحاولون أن يحملوكم على الثقة فيهم ، وما هم بأهل للثقة ، وقال تعالى عنهم ذلك:{ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ( 56 )} .