وهل يقبل النبي منهم ما يدفعونه مغرما ، إن الأمر في ذلك متروك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد بين سبحانه وتعالى المانع عن قبول صدقاتهم بالتصريح بما طوى في هذه الآية فقال تعالى:
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ( 54 )} .
وصلت هذه الآية الكريمة بالآية السابقة ؛ لأنها تتميم للسبب الذين منع تقبل ما ينفقون ، والنفقة هي الإنفاق ، والتعبير بالنفقة فيما أحسب يدل على صغر ما ينفقون ، ومع ذلك لا يقبله الله سبحانه وتعالى ؛ والتعبير بقوله:{ وَمَا مَنَعَهُمْ} على أن اسم المفعول يعود إليهم ، فيه إشارة إلى أنهم كانوا يرجون أن يقبل منهم ما ينفقون في الدنيا رجاء أن تتم الخديعة التي أرادوها ، وعبر سبحانه وتعالى هنا بقوله تعالى:{ أن تقبل} ، وفي الآية السابقة بقوله تعالى:{ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ} بصيغة يتقبل ، وذلك لأنهم كانوا يظنون أن أي إنفاق يقدمونه يتقبل برغبة من النبي وأصحابه ، فإن صيغة التقبل تدل على القبول برغبة كما قال تعالى في نذر مريم:{ فتقبلها ربها بقبول حسن . . . . . . ( 37 )} ( آل عمران ) .
وفي هذه الآية:( تقبل ) من أصل القبول ، وسبب الرد أصل القبول ، ولو كان المنع من التقبل ، لكان أصل القبول غير ممنوع .
و ( أن تقبل ) الضمير من ( أن وما بعدها ) في موضع المجرور ب ( من ) لأن حروف الجر تحذف كثيرا قبل أن وفعلها ، كما في قوله تعالى:{. . . . . ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك . . . . . . ( 12 )} ( الأعراف ) .
وقد ذكر الشوكاني في تفسيره فتح القدير:أن الآية الكريمة تشير إلى أن الأسباب ثلاثة فقال:( جعل المانع من القبول ثلاثة أمور ، الأول:الكفر ، والثاني:أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل ، والثالث:أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون ؛ لأنهم يعدون إنفاقها وضعا لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله .
وقد ذكر الأمر الأول فقال سبحانه وتعالى:{ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ} الضمير المنسبك من أن وما بعدها في محل رفع فاعل للفعل ( منع ) في قوله تعالى:{ وما منعهم} فكفرهم بالله لأنهم تمردوا على أوامره ونواهيه ، وجحدوا بآياته ، وكفرهم برسوله لأنهم جحدوا رسالته ، واليهود منهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وقد جاء بالكتاب من عند الله وعجز العرب عن أن يأتوا بمثله بعد أن تحداهم فما استطاعوا ، وكرر الباء ، فقال:{ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ} ، للإشارة إلى أن الكفر ب الله كفر ، والكفر بالرسول كفر ، أيضا .
وفي الأمر الثاني قال تعالى:{ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} أي لا يقومون عند النداء إلى الصلاة إلا وحالهم حال الكسالى متثاقلون كأنهم غير راغبين في أدائها ، أي أنهم في هذا المظهر الذي لا يتوافق فيه العمل مع القلب يتثاقلون فيه ؛ لأنهم ما داموا كفارا فإنهم ليس منهم صلاة مقبولة أو صلاة قط ، لهذا ترد عليهم نفقاتهم ، فكيف تكون صلاة ، إنما مظهرها صلاة ، فهم حتى في هذا يقومون كسالى ، وهي جمع كسلان كسكارى ، جمع سكران ، وغيارى جمع غيران ، كما يقول الزمخشري في الكشاف .
ومهما يكن وصفهم بأنهم يقومون بالصلاة كسالى فإن صلاتهم من الصلاة التي يكون لهم الويل فيها ، كما قال تعالى:{ فويل للمصلين ( 4 ) الذين هم عن صلاتهم ساهون ( 5 ) الذين هم يراءون ( 6 ) ويمنعون الماعون ( 7 )} ( الماعون ) .
والأمر الثالث هو في إنفاقهم بينه سبحانه وتعالى بقوله:{ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} ، أي لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة إلا وهم غير راغبين ، بل ينفقون كارهين النفقة في ذاتها ، أو لموضوعها ، ولا يفعلون ذلك إلا سترا لنفاقهم ، ويتخذونه وسيلة للتمكن من الخداع الذي يقصدونه .
ولا تعارض بين هذا النص الذي حصر إنفاقهم في حال نفسية واحدة ، وهي كراهية الإنفاق ؛ وعدم الرغبة فيه لشح في أنفسهم ، ولكراهية المؤمنين .
فهذه الآية تدل على ذلك ، وأما الآية السابقة فمؤداها نفي القبول ، ولو أنفقوا طائعين أو ملامين بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو نقول طائعين رغبة لا في الإنفاق لذات الإنفاق ، بل رغبة في الخديعة وستر حالهم من جبن وإرادة الفساد ، أو كارهين لهذا الإنفاق .
فالمنافقون كانوا إذا طلب منهم النفير جبنوا وامتنعوا وتمردوا ، ورضوا بالمال كما فعل الجد بن قيس فيما قصصنا من قبل ، إذ امتنع وتعلل بأنه ضعيف أمام نساء الرومان بني الأصفر ، ويخشى الفتنة ، وقال:هذا مالي خذوا منه ما تشاءون ، ووصفه الكاره ينطبق عليه ؛ لأنه يكره الإنفاق في سبيل الله ، ووصف المختار ينطبق عليه أيضا لأنه اختاره .