بين الله تعالى في الآيةالسابقة العقاب الشديد الذي يستقبل الكافرين ، وخص المنافقين بالذكر ؛ لأنهم كفار أخساء لؤماء ، مفسدون ، ثم بين سبحانه وتعالى أن ذلك العذاب قريب وليس بعيد ، وأنه أصاب الذين من قبلكم ، فقال مقربا لعذابهم ممثلا له بعذاب من سبقوهم ، فقال:{ كالذين من قبلكم} الذين سبقوكم بالكفر والطغيان ، والخطاب للكفار والمنافقين ، وإن ذكرهم وقد فنوا يومئ إلى أنهم سيكونون مثلهم في فناء ، وأن الحياة الدنيا التي آثروا متعها فانية ، وقوى ذلك المعنى المشار إليه بقوله تعالت كلماته:{ كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا} كانوا في قوة غزت الأقاليم وفتحت البلاد ودانت لهم رقاب العباد ، وسيطروا على الأرض ، كان عدد الملأ من قوم فرعون كثيرا ، والأموال من الزرع والثمار والسائمة ، تجري في أيديهم ، فأنى يكون عددهم بجوار عددهم ، وأموالكم وأنتم بواد غير ذي زرع بجوار أموالهم ، ومع ذلك حسبوا الحياة كل شيء ففنوا مع فناء حياتهم الدنيوية .
قوله تعالى:{ فاستمتعوا بخلاقهم} أي بنصيبهم الذي خلقه الله تعالى لهم ، استمتعوا بهذا النصيب ، وحسبوه الحياة ولا حياة بعدها ، وتحكموا واستكبروا ، وقال الطاغوت الأكبر لفرعون- ومن شابهه-:{. . .أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي . . .51}( الزخرف ) وسرتهم سيرهم ، فحسبتم أن الدنيا هي الحياة ، ولا حياة بعدها . ولذا قال تعالى:{ فاستمتعوا بخلاقهم} .
استمتع معناها طلب المتعة ، ونالها ، فالأقدمون استمتعوا بما أوتوا من حظوظ الدنيا ، وجعلوها متعتهم ، وقصروا متع حياتهم عليها لا يطلبون غيرها من متع الآخرة ، ولا يريدونها ، والفاء في قوله تعالى:{ فاستمتعوا بخلاقهم ) ؛ تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها ، ترتب محاكاة واتباع ، فطلبتم ما طلبوا وحاكيتموها فيما فعلوا ، ولذا قال:{ كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} ثم قال تعالى:{ وخضتم كالذي خاضوا} قلنا:إن الخوض معناه دخول الماء ، واختفاء الأرجل والسير فيه ، وأطلق على الخوض في الباطل والإثم ، وفيه مجاز ، من حيث تشبيه الخوض في الباطل بالخوض في الماء من غير تعرف لما فيه ، وقد يكون فيه صخور ، أو أشياء تجرح وتضر .
{ وخضتم كالذي خاضوا} أي خضتم في الباطل كالذي خاضوا فيه .
والمعنى تشابهت أحوالكم مع أحوال من سبقوكم فاستمتعتم بحياة لاهية رخيصة ، من غير نظر إلى عاقبة أموركم وأمورهم وحسبتم أن خلاقكم في الدنيا هو الحظ الأوفر ، فلم تفكروا في الآخرة ، ولم تعملوا على صلاح أموركم فيها ، بل إنكم وأنتم حسبتم أن حياتكم هي الدنيا ، وظننتم أنكم خلقتم عبثا من غير غاية ، وأنه ليس هناك يوم تجازون فيه ، وإن الصيغة الكريمة تومئ إلى أن قصر الحياة على حظوظ الدنيا استهانة بأنفسهم ، وقد قال الزمخشري في بيان السبب في تكرار التشبيه لحالهم بحال من سبقوهم من الفجرة الآثمين العاتين ، وفائدته أن يذم الأولين بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائهم بشهواتها الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الصلاح في الآخرة ، وأن يصغر أمر الاستمتاع بها ، ويهين أمر الراضي بها ، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله ، فتقول:أنت مثل فرعون ؛ كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف ، وأنت تفعل مثل فعله .
فهو سبحانه وتعالى يشير إلى سوء حال من سبقوهم ، ويبين أنهم مثلهم .
ثم قال تعالى:{ أولئك حبطت أعمالهم} الإشارة إلى أوصافهم من أنهم حسبوا الحياة لهوا ولعبا ، فاستمتعوا بحظهم فيها ، واستمتعتم أنتم مثلهم ، هذا سبب أن حبطت أعمالكم ، أي بطلت ؛ لأنها تحمل في نفسها أسباب فسادها ، وأولئك هم الخاسرون ، وقد تأكد خسارتهم ، وفي الكلام قصر ، واختصاص أنهم مقصورون على الخسران ، فلا فلاح لهم في الدنيا إذ تكون حياتهم يأكلون ويمرحون ، ولا فلاح لهم في الآخرة إذ يستقبلهم العذاب المهين .