/م67
{ كالذين من قبلكم} هذا عود إلى خطاب المنافقين الذين نزلت في شأنهم الآيات السابقة واللاحقة بعد ذكر حال جنس المنافقين وصفاتهم في كل زمان ، يقول لهم:أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم في أقوام الأنبياء ، مفتونون بأموالكم وأولادكم ، مغرورون بدنياكم ، كما كانوا مفتونين ومغرورين بأموالهم وأولادهم ، ولكنهم{ كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم} ، أي فكان مطلبهم من أعمالهم وسعيهم التمتع والتنعم بنصيبهم وحظهم الدنيوي من الأموال والأولاد ، لم يكن لهم مطلب ولا غرض من الدنيا إلا التمتع بعظمتها تطغيهم بها القوة ، وبلذاتها تغريهم بها الثروة ، وبزينتها تفرحهم بها كثرة الذربة ؛ لأنهم لم يكن لهم مقاصد شريفة عالية من الحياة سواها كالذي يقصده أهل الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة من إعلاء كلمة الحق ، وإقامة ميزان العدل في الخلق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل كان خلاقهم كخلاق السباع والأنعام من العدوان واللذات البدنية والنسل .
{ فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} من القوة والأموال والأولاد سواء ، لم يفضلوا عليهم بشيء من إرشاد كلام الله وهدي رسوله في الفضائل والأعمال الصالحة التي تتزكى بها الأنفس البشرية ، وتكون بها أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية ، فكنتم أجدر باللائمة والعقاب منهم ، لأنهم أوتوا من القوة المطغية ، والأموال المبطرة ، والأولاد الفاتنة ، فوق ما أوتيتم ، ولم يروا من آيات الله تعالى ما رأيتم ، ولا سمعوا من حكم كلامه وشرائعه ما سمعتم ، ولا نصب لهم من المثل الأعلى لهداية رسله ما نصب لكم بهدي محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الله نزل عليه أحسن الحديث وأفضل الكتب وأكمل به الدين ، وجعله خاتم النبيين ، وأعاد ذكر استمتاع من قبلهم لما يقتضيه التبكيت والتأنيب من الإطناب لبيان اختلاف الحالين ، فهو يقول لهم:إنكم فعلتم فعلتهم حذو القذة بالقذة مع توفر الدواعي على ضده .
{ وخضتم كالذي خاضوا} أي وخضتم في حمأة الباطل كالخوض الذي خاضوه من كل وجه ، على ما بين حالكم وحالهم من الفرق ، الذي كان يقتضي أن تكونوا أهدى منهم ، وقال الفراء من علماء العربية:إن ( الذي ) تأتي مصدرية كما ، فيكون التقدير:وخضتم كخوضهم ، وقيل:إن ( الذي ) هنا للجنس كمن وما ، وأنه بمعنى الذين ، ولكن هذا ضعيف لفظاً ومعنى ؛ إذ المراد أنكم تخوضون كخوض من قبلكموهو الذي يقتضيه العطفلا كالذين خاضوا مطلقاً من أي فريق كانوا .
{ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} حبط العمل بكسر الباء حبطاً بسكونها وحبوطاً:فسد وذهبت فائدته ، وحبط دم القتيل:هدر ، وهو من حبط بطن البعير حبطاً [ بفتحتين] انتفخ وفسد من كثرة أكل الحندقوق فلم يثلط ، أي أولئك المستمتعون بخلاقهم وحظهم مما ذكر والخائضون في الباطل حبطت أعمالهم الدنيوية في الدنيا ، فكان ضررها أكبر من نفعها لهم لإسرافهم فيها ، وإفسادهم في الأرض ، كما تحبط بطون الماشية تأكل الخضر فتستوبله فتنتفخ وتفسد ويكون سبب هلاكها ، وحبطت أعمالهم الدينية في الآخرة من العبادات وصلة الرحم وصنع المعروف والصدقة وقرى الضيوف ، فلم يكن لها أجر ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة ، لأنها كانت لأجل الرياء والسمعة وحب الظهور والثناء ، ولأجل أن يعاملوا معاملة المسلمين وتجري عليهم أحكامهم ، لم تكن لأجل تزكية النفس ، ولا لمرضاة الله عز وجل ، وفي التنزيل عدة آيات في حبوط الأعمال بالشرك والرياء ، أي بطلان ثوابها ، وهو مستعار من حبط بطون الماشية كما تقدم ، ويا لها من استعارة ، فإن الماشية عندما تأكل الخضر من النبات تلذذاً به فتكثر منه فتستوبله وتستوخمه يكون حظها منها فساد بطونها وهلاكها ، بدلاً من التغذي والانتفاع الذي تطلبه بشهوتها .وقيل:إن المراد بحبوط أعمالهم في الدنيا فشلهم وخيبتهم فيما كانوا يكيدون للمؤمنين .
وجملة القول:إن أعمالهم إما دينية وإما دنيوية:
فالدينية تحبط كلها في الآخرة لأن شرط قبولها الإيمان والإخلاص ، وتحبط في الدنيا إذا ظهر نفاقهم ، وافتضح أمرهم ، ولحبوطها معنى آخر وهو أنها لا تأثير لها في تهذيب أخلاقهم وتزكية أنفسهم من الفحشاء والمنكر ومساوئ الأخلاق ، لأن هذا لا يحصل إلا بالإخلاص .
وأما الدنيوية فهي قسمان:
1تمتع بالأموال والأولاد والقوة .
2 – كيد ومكر ونفاق .
وقد بينا معنى حبوطهما آنفا بما يطرد في أزمنة الأنبياء وما يشبهها كعهد الخلفاء الراشدين .وأما أعمال النفاق الدنيوية في أيام الملوك والأمراء الظالمين الفاسقين ، فإنها تكون أكثر رواجاً ونتاجاً من أعمال الصادقين المخلصين ، ولا دليل على فساد الملوك والأمراء والرؤساء أدل من تقريبهم للمنافقين المتملقين منهم ، وإبعادهم للناصحين الصادقين عنهم ، قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم:( الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ){[1608]} متفق عليه .
{ وأولئك هم الخاسرون} التامو الخسران دون غيرهم ممن لم يكن كل حظهم من نعم الله الاستمتاع العاجل ، والخوض في الباطل ، إذ جاء خسارهم من مظنة الربح والمنفعة ، كقوله تعالى فيهم:{ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} [ الكهف:104] ، وكلُّ خسار دون هذا هين كأنه ليس بخسار ، وهذا معنى صيغة الحصر في الجملة ، فهل يعتبر بهذا أهل هذا الزمان ؟ أم هل يعتبر به التالون والمفسرون للقرآن ، أم يقرؤونه ويفسرونه لكسب الحطام ؟