بعد أن بين سبحانه أخلاق الأعراب أخذ الحكم العدل اللطيف الخبير يبين أهل الشر منهم ، وأهل الخير منهم فقال تعالى:{ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم98} .
إن الأعراب الذين هم أشد كفرا ونفاقا يرون المسلمين لهم القوة والسيطرة فما يدفعونه من زكاة يقدمونها على أنها مغرم أي مال وجب عليهم أداؤه ، ولأنهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا اليوم الآخر يعدونه مغرما – والمغرم:الغرم أو الغرامة:والغرامة هي المال الذي يدفع في غير مقابل ، ولأنهم لا يؤمنون ولا يرجون خيرا في عطائهم ، وأصل الغرام الشيء الملازم ، وأطلق على المدين الغارم ، لأنه ملازم دائما من الدائن ولذا قال تعالى:{. . .إن عذابها كان غرامات65}( الفرقان ) .
فهؤلاء الأعراب لا علاقة لهم بالمجتمع ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، يعدون ما ينفق من زكاة مفروضة غرامة ، وينتظرون أن ينخلعوا من هذا المال المفروض عليهم ، ولا يؤمنون بوجوبه عليهم ؛ لأنهم لا دين لهم وقال:{ ويتربص بكم الدوائر} أي ينتظر ذلك الفريق من الأعراب أن تنزل بكم النكبات ، "والدوائر"وهي جمع دائرة ، والدائرة النائبة وهي في أصلها مصدر كالعافية ، وقد تكون اسم فاعل من دار يدور ، أي نكبة دائرة ، وتتعاقب على الناس ، أي أن أولئك المنافقين غير المؤمنين من الأعراب ينتظرون أن تنال المؤمنين دائرة تذهب بقوتهم ، فيتحللون من تلك النفقات المفروضة ، وقد انتظروا حتى توفى الرسول صلى الله عليه وسلم فحسبوها فرصة فارتدوا ، ثم لما زادت الشدة من أهل الإيمان عليهم رضوا بالصلاة ، وامتنعوا عن الزكاة ، حتى دفعوها صاغرين بسيف الله الذي رفعه الصديق رضي الله تعالى عنه .
ويقول سبحانه:{ عليهم دائرة السوء} أي أنه ينزل عليهم نكبة السوء ، وهنا في( السوء ) قراءتان ، إحدهما بضم السين{[1268]} ، وهي المصدر بمعنى ما يسوءهم ، فالدائرة نازلة ومقبلة ، ولكنها ليست على المؤمنين بل على المنافقين من الأعراب ، ولذلك هزمهم الصديق وخضد شوكتهم ، وتقرأ السين في القراءة الثانية بالفتح{[1269]} ، والسوء:الضرر والفساد وكل قراءة من القراءتين قرآن متواتر .
وبجمعها يكون المعنى أنه يصيبهم نكبة تفجعهم وتسوءهم ، وعاقبته مضرة شديدة عليهم أن يرشد جمعهم ويتفرق أمرهم وتسبى نساؤهم ثم يعتقن ، وأن يقتل رجالهم وينهزموا .
ثم ختم الله تعالى الآية ببيان أن ما ينوون وما يتربصونه يعلمه الله تعالى ويدبر الأمور على غير ما يريدون ، بل على ما يريد الحق جل جلاله ولذا قال تعالى ( والله سميع عليم ) ،صدرالجملة السامية بلفظ الجلالة ،لتربية المهابة في نفوس القارئين والمستمعين ، وملء القلوب برقابة الله تعالى ؛ لأنه{ سميع} يسمع ما تحدث به النفوس ، وما تهمس به الأفئدة( عليم ) بكل شيء ، يدبر الأمر على مقتضى علمه ، وقد أحاط بكل شيء علما .