الأعراب
قال تعالى:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود الله ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم97 ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم 98 ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم99
لقد تم نزول القرآن الكريم قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والكلام على هذه الآية يدل على أن القرآن من عند الله تعالى علام الغيوب ؛ لأنه يدل على أمرين وقعا بعد وفاة الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه:
الأمر الأول:أن الأعراب أشد كفرا ونفاقا ، ولذا ارتدوا أو أكثرهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحاطوا بالمدينة ، ولولا وقفة الصديق خليفة رسول الله ، والصحابة الأولي من المهاجرين والأنصار لاقتلعوا الإسلام .
الأمر الثاني:أنه عندما قويت دولة الإيمان عليهم ، وهزموا هزيمة منكرة ، رضوا بالصلاة دون الزكاة لأنهم اتخذوها مغرما ، ولم يتخذوها قربات عند الله وتعاونا بين المؤمنين ، وهو تعاون على البر والتقوى ، ولذا لم يقبل خليفة رسول الله إلا الإسلام الكامل ، والطاعة ، وقالها مؤمنا:إما حرب مجلية ، وإما سلم مخزية .
ولقد تربص أولئك الأعراب الدوائر بالمؤمنين فانتهزوا فرصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتدوا فدارت عليهم دائرة السوء .
وإن ذلك كله دلائل على أن القرآن من عند الله تعالى العزيز الحكيم .
الأعراب هم سكان البوادي في خلقهم جفوة ، وفي طبائعهم خشونة ، وفيهم نفرة لا يأنسون بالناس ولا يأنس بهم الناس ، وإن كان فيهم يقظة وسرعة وحركة ونجدة ، وهم لذلك أقل الناس علما وفكرا ، وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال:"من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن".
ولقد قال ابن كثير في تفسيره:ولما كانت الغلظة في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى ، كما قال تعالى:{ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى . . .109}( يوسف ) ، والقرى:المدن العظيمة ، وخير القرى ما يكون قريبا من البادية أو في وسطها كمكة والمدينة . . . فهي تجمع بين قوة نفس البدوى وأنس الحضري ، وكذلك كان يبعث النبييون فموسى بعث بمدين ، وعيسى بعث على مقربة من البادية ، ومحمد بعث بمكة عليهم الصلاة والسلام ، وقد وصف الله تعالى الأعراب بثلاثة أوصاف:أولها:أنهم أشد كفرا ، وثانيها:أنهم أشد نفاقا ، وأفعل التفضيل ليس على بابه ؛ لأنه لم يذكر الفضل عليه ، وحيث لم يذكر الفضل عليه يكون المعنى أنه كفر بلغ أقصاه وأشد أحواله فهو كفر يلتقى فيه الجحود ، وعدم التفاهم ، والجهل الشديد ، والغلظة الجافية .
ونفاقهم ليس كنفاق أهل المدينة ، ولكن نفاقهم يكون بعدم الإيمان المطلق مع التسليم الظاهر ، وعدم الإلف ، وهم كما قال الله تعالى:{ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . . .14}( الحجرات ) .
والوصف الثالث هو قوله تعالى:{ وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} إنهم بإقامتهم في البادية كانوا جديرين وخلقاء ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله بألا يعرفوا أحكام الشريعة والفرائض ، وتوابعها وأحكام الجرائم ، وعقوباتها ، والمحرمات من النساء والأنكحة والمواريث ، وغير ذلك من أحكام الشريعة التفصيلية .
{ وأجدر} أفعل تفضيل على غير بابه ، إذ إن المفضل عليه غير موجود ، والمعنى أنهم لبعدهم عن المدائن والقرى حيث العلم والفقه – صاروا في أغلب الأحوال جديرين بالبعد عن العلم بحدود الله تعالى .
وفي مذهب مالك لا تقبل شهادة البدوي على الحضري ، ولا تجوز إمامته له ، وذكر هذا القرطبي في تفسيره وهو مالكي ، ونقول إنه غريب عن مالك إمام دار الهجرة رضي الله عنه ، وإن المؤمنين عدول فيما بينهم ، والإمامة للأعلم فالأقرأ ، وقد يكون فيهم أعلم وأقرأ ، ووصف مجموعهم لا يقتضي وصف كل واحد منهم .
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:{ والله عليم حكيم} أي يعلم الله تعالى أحوال الجماعات ونفوسهم مؤمنهم وكافرهم قويهم وضعيفهم ، وهو المتصف بالعلم الكامل ، وحكيم يدبر الوجود بمقتضى الحكمة .
فإذا كان الجهل في البادية لبعدها عن العمران ففيها البأس والقوة ، والصبر على مصاعب الحياة وشدائدها ، ولذلك لما قضي الصديق على الردة ، وأخلى الأرض العربية منها- جيش الجيوش إلى كسرى وقيصر ، وكان أكثرهم من أهل الأعراب الذين ارتدوا فوجه قوتهم إلى الأعداء .