وأن الله يعلمنا الإنصاف في الأقوال والأفعال ، ولله المثل الأعلى ، فيذكر تعالت كلماته بجوار المنافقين من الأعراب الأبرار فيقول عز من قائل:( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم99} .
هذا هو الصنف من الأعراب الذي أخلص لله تعالى ، وسلمت قلوبهم من النفاق ، وآمنوا بالله وأقاموا الصلاة ، وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بالإيمان بالله تعالى ، فقال:{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر} ذكر سبحانه وتعالى الإيمان بالله تعالى وهو الإيمان بوحدانيته ، وأنه الخالق من غير شريك ، والواحد في صفاته من غير مثل ، والمتفرد بالألوهية والعبادة وحده سبحانه وتعالى ، والإيمان بأن له رسلا أرسلهم إلى خلقه ويؤيدهم بمعجزات باهرة تدل على أنهم يتحدثون عن الله ، وأنه أرسل محمدا بالهدى ودين الحق بشيرا و نذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .
فذكر الإيمان بالله تعالى يقتضي الإيمان برسله عامة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وقال تعالى:{ واليوم الآخر} وهو يوم القيامة وما قبله من بعث ونشور وحساب وثواب وعقاب ، فكل ذلك إيمان باليوم الآخر ، وهو إيمان بأن الإنسان لم يخلق عبثا ، وأن الدنيا قنطرة الآخرة .
وقوله تعالى وهو ما يتبع الإيمان:{ ويتخذ ما ينفق قربات} ومعنى{ يتخذ} يفعلها قاصدا أن تكون قربات ، لا كالذين فعلوها على أنها مغرم من المغارم يغرمونها ،{ قربات} أي يفعلونها متقربين بها إلى الله تعالى ، فالقربات جمع قربة ، وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى ، وجمعها لتعدد الخير في الصدقات فهي طاعة لله تعالى وهذه قربة ، ووقاية النفس من شحها وهذه قربة أيضا ، ومعاونة اجتماعية وهذه قربة رابعة ، وعلاج لأدواء المجتمع الإسلامي بإعطاء السائل والمحروم حقهما ، وتلك قربة خامسة ، وطب لنفوس المحاويج حتى لا يحقدوا على المجتمع ، وهذه قربة سادسة . وهكذا تجتمع القربات في الزكاة وهي الإنفاق في سبيل الله .
{ وصلوات الرسول} معطوفة على ما ينفق قربات للرسول ، وصلوات الرسول قال أكثر المفسرين إنها جمع صلاة بمعنى دعاء أي دعوات الرسول التي يدعو الله تعالى بها عند قبول الصدقات ، أي أنهم يتخذون الزكاة قربات لهم ودعاء الرسول بالبركة يتخذونها قربات أيضا ، ويزكي ذلك قوله تعالى بعد ذلك:{ ألا إنها قربة لهم} .
وقد خطر على ذهني قوله تعالى:{ وصلوات الرسول} معطوفة على قوله{ ما ينفق قربات} أن الظاهر الصلوات المفروضة وليس الدعاء المقرون من الرسول بقبول الصدقات وإضافتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار الصلاة فرضت في القرآن ، وبينها النبي صلى الله عليه وسلم بيانا عمليا ، فقال معلما للمؤمنين "صلوا كما رأيتموني أصلي"{[1270]} فكانت صلوات المؤمنين جميعا هي صلوات النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانت إضافتها إليه صلى الله عليه وسلم باعتباره المبين لهذه الفرائض ويكون هؤلاء المتقون من الأعراب قد قاموا بالصلاة والزكاة معا ، لا يفرقون بينهما كما أراد المرتدون . ثم قال تعالى:{ ألا إنها قربة لهم} .
الضمير- على ما قلنا- يعود إلى الصلوات ، وعلى قول أكثر المفسرين يعود إلى ما ينفقون في سبيله ، ولا شك أن عوده إلى الصلوات أوضح ؛ لأن الضمير مؤنث ، وهو أجدر بأن يعود على جمع مؤنث .
و( ألا ) هنا أداة تنبيه ، وهي تفيد معنى القربة وتؤكده ، وتغنى عن ذكر وصف الصلوات بأنها قربة أضا .
وقوله تعالى:{ سيدخلهم الله في رحمته}:( السين ) لتحقق الدخول في الرحمة ، والرحمة إما أن يراد بها الجنة وعبر عنها بالرحمة ؛ لأنها نعيم مقيم وأعلى رحمة يعلو الإنسان إليها ، وإما أن يراد بها الرحمة الشاملة المذكورة{. . .ورحمتي وسعت كل شيء . . .156}( الأعراف ) ، لتشمل الجنة وغيرها ويكون المعنى أنهم باتخاذهم ما ينفقون والصلوات- تحيط بهم رحمة الله تعالى لا يخرجون منها إلا إليها .
وقد ختم الله تعالى الآية بما يفتح باب التوبة للأعراب ، وهم أقرب المنافقين في المدينة الذين مردوا على النفاق فقال تعالى:{ إن الله غفور رحيم} أكد غفران الله تعالى ورحمته ب( إن ) المؤكدة ، وبالجملة الاسمية ، وبصيغة{ غفور رحيم} . وبعد أن بين الله أحوال الأعراب ما بين مؤمن ومنافق ، ذكر أحوال الذين سبقوا إلى الإيمان .