السابقون
قال تعالى:
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم 100 وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم101 وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم102 خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم103
بعد أن بين سبحانه أحوال المنافقين في المدينة بين أصنافا ثلاثة من الذين يحيطون بصاحب الدعوة:أولهم وأتقاهم:هم الذين قامت عليهم دعامة الإسلام ، وآمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر .
وثانيهم المنافقون حول المدينة ، والذين مردوا على النفاق في داخلهم ، والله تعالى يعلمهم .
وثالثهم:فريق خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، وأفاقوا واعترفوا بذنوبهم فعسى الله تعالى أن يتوب عليهم ، وهو التواب الرحيم .
الصنف الأول ذكره الله تعالى بقوله:{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} السابقون الأولون هم الذين سبقوا إلى الإسلام ، والنبي صلى الله عليه وسلم منفرد قد أنذر عشيرته الأقربين ، فأعرض بعضهم وأنكروا شديد النكير . ومن لم يعرض وقف حائرا بين غرابة ما يدعي إليه وماضي الصديق الأمين .
والذين كانوا من الضعفاء ولم يكونوا من الأقوياء إلا نفر قليل ، والضعفاء كان منهم الرومي ، ومنهم الفارسي ومنهم الحبشي ، وكونوا الخلية الأولى للإسلام ، ولكنهم وإن كان قليلا كانوا بإيمانهم واستمساكهم وتفديتهم للإسلام كانوا أقوى وأشد ، وكانوا يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم سرا ولا يجهرون حتى انضم إليهم عمر فأعز الله نبيه وأولئك الضعفاء ، وكان أن صدع بأمر الله كأمر ربه .{ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين94} ( الحجر ) ، ولما علم أهل المدينة بدعوة محمد قابلهم في العقبة الأولى ثم في العقبة الثانية ، وهاجر ومن معه إليهم فآووا ونصروا ، وإذا كان الأولون قد سبقوا الى الاستجابة ، فقد سبق الأنصار إلى انشاء دولة الاسلام واذا كان الاولون قد سبقوا ابتداء ولهم فضل الهجرة فقد سبق الانصار الى بناءالدولة ، ونالوا أفضل الإيواء والنصرة .
والذين اتبعوهم بإحسان في هذا الدين ممن أسلموا وهاجروا ثم اشتركوا في الإيواء .
وهناك قراءتان احداهما بالواو{[1271]} ( والذين اتبعوهم بإحسان ) ، ويكون هذا لبيان فضل من جاء بعدهم ممن نهجوا مناهجهم في حياتهم ، ومن جاءوا بعدهم ، ومن في قوله تعالى:{ من المهاجرين والأنصار} بيانية ، أي هم المهاجرون والأنصار .
وهناك قراءة من غير الواو{[1272]} ، ويكون من تبعوهم بيان لفضل الأنصار وتكون بدلا أو عطف بيان ، أي أن المهاجرين سبقوا وتلقوا الأذى والبلاء ، والأنصار نصروهم واتبعوهم بإحسان أي اتبعوهم بإتقان وإجادة ، ورضا وتقبل بقبول حسن ، ولقد ذكر الله تعالى مناقب المهاجرين والأنصار وجزاءهم .
فذكر الجزاء الأعلى وهو رضاهم وليا ونصيرا ، ورضا الله تعالى عنهم أحباء لله تعالى ، فقال:{ رضي الله عنهم ورضوا عنه} ورضوان الله تعالى أكبر جزاء على الطاعات ، فقد ذكر الله تعالى الجزاء من جنات ونعيم مقيم ، ثم قال:{. . .ورضوان من الله أكبر . . .72} وقد قدمه تعالى على جزاء من بعده ، فالإحسان برضا الله أعلى درجات الجزاء ، ووصفهم الله بأنهم رضوا عنه ، رضوا بتكليفاته ، وتقبلوها بقبول حسن ، وقاموا بحق طاعته ، وأحبوا الله لا خوفا من ناره ، ولا طمعا في جنته ، بل لكمال محبته ، وتلك هي المنزلة العليا في العباد ، لا يعبده سبحانه خوفا ولا طمعا ، ولكن محبة ، وسعادة بعبادته .
ومع هذه المرتية العليا من المكانة التي لا تعلوها مكانة ، ولا ينهد إلى مثلها جزاء{ وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} .
في هذا النص السامي قراءتان متلاقيتان في المعنى ، ففي المصحف المكي زيادة"من"وفي غيره خلو منها{[1273]} ، وفي الجنات الثمار الطيبات وتعدد الجنات لتعدد ثمارها ، ففيها فاكهة ونخل ورمان ، وغيرهما مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولا يخاف فيها الفوت ، ولا الانقطاع ، ولذا قال تعالت كلماته{ خالدين فيها أبدا} والخلود ذاته نعمة ، لأن البقاء نعمة ، والفناء فيه الخوف .
{ ذلك الفوز العظيم} الإشارة إلى هذا الجزاء العظيم من رضوان منه ، ورضا بأمره ونهيه ، وقضائه خيره وشره وجنات متعددة الثمار مختلفة الألوان والأنواع ، هو الفوز العظيم ، ولا فوز يقابله أو يناهده ، ومن ناله فقد نال خير الدنيا والآخرة .