التّفسير
السّابقون إِلى الإِسلام:
بالرغم من أن المفسّرين قد نقلوا أسباباً عديدة للنزول ،إلاّ أنّ أيّاً منهاكما سنرىليس سبباً للنزول ،بل إنّها في الواقع بيان المصداق والوجود الخارجي لها .
على كل حال ،فإنّ هذه الآيةالتي وردت بعد الآيات المتحدثة عن حال الكفار والمنافقينتشير إِلى مجموعات وفئات مختلفة من المسلمين المخلصين ،وقسمتهم إِلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: السابقون في الإِسلام والهجرة: ( والسابقون الأولون من المهاجرين ) .
الثّاني: السابقون في نصرة وحماية النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه المهاجرين: ( والأنصار ) .
الثّالث: الذين جاؤوا بعد هذين القسمين واتبعوا خطواتهم ومناهجهم ،وقبولهم الإِسلام والهجرة ،ونصرتهم للدين الإِسلامي ،فإنّهم ارتبطوا بهؤلاء السابقين: ( والذين اتبعوهم بإحسان ){[1662]} .
ممّا قلناه يتبيّن أنّ المقصود من «بإحسان » في الحقيقة هو بيان الأعمال والمعتقدات لهؤلاء السابقين إِلى الإسلام التي ينبغي اتباعها ،وبتعبير آخر فإنّ ( إحسان ) وصف لبرامجهم التي تُتَّبَع .
وقد احتمل أيضاً في معنى الآية أنّ ( إِحسان ) بيان لكيفية المتابعة ،أي أن هؤلاء يتبعونهم بالصورة اللائقة والمناسبة .ففي الصورة الأُولى الباء في ( بإحسان ) بمعنى ( في ) ،وفي الصورة الثّانية بمعنى ( مع ) .إلاّ أنّ ظاهر الآية مطابق للتفسير الأوّل .
وبعد ذكر هذه الأقسام الثّلاثة قالت الآية: ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) .
إن رضى الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء هو نتيجة لإيمانهم وأعمالهم الصالحة التي عملوها ،ورضاهم عن الله لما أعد لهم من الجزاء والعطايا المختلفة التي لا تدركها عقول البشر .وبتعبير آخر ،فإنّ هؤلاء قد نفذوا كل ما أراده الله منهم ،وفي المقابل أعطاهم الله كل ما أرادوا ،وعلى هذا فكما أنّ الله سبحانه راض عنهم ،فإنّهم راضون عن الله تعالى .
ومع أنّ الجملة السابقة قد تضمنت كل المواهب والنعم الإِلهية ،المادية منها والمعنوية ،الجسمية والروحية ،لكن الآية أضافت من باب التأكيد ،وبيان التفصيل بعد الإِجمال: ( وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ) ومن امتيازات هذه النعمة أنّها خالدة ،وسيبقى هؤلاء ( خالدين فيها ) وإذا نظرنا إِلى مجموع هذه المواهب المادية والمعنوية أيقنا أن ( ذلك الفوز العظيم ) .
أيّ فوز أعلى وأكبر من أن يدرك الإِنسان أن خالقه ومعبوده ومولاه قد رضي عنه ،وقد وقّع على قبول أعماله ؟وأي فوز أعلى من أن يحصل الإِنسان على مواهب خالدة نتيجة أعمال محدودة يعملها في أيّام هذا العمر الفاني ؟
بحوث
1موقع السّابقين
في كل ثورة اجتماعية جبارة تقوم ضد أوضاع المجتمع الفاسدة ،فإنّ طلائع الثورة هم أعمدتها ،وعلى عاتقهم يقع حملها وثقلها ،وهؤلاء في الحقيقة هم أوفى عناصر الثورة ،لأنّهم نصروا قائدهم وقدوتهم في أحلك الظروف والتفوا حوله في ساعات المحنة والوحدة رغم أنّهم محاصرون وتحيط بهم أنواع الأخطار إلاّ أنّهم لم يتخلوا عن دعمهم ونصرتهم وتضحيتهم .خاصّة وإن مطالعة تاريخ صدر الإِسلام تعطي صورة واضحة عن مدى ضخامة المشاكل التي واجهها السابقون والرعيل الأوّل من المسلمين !
كيف كانوا يؤذونهم ويعذبونهم لكنّهم لم يصرخوا ولم يتأوهوا رغم شدة آلامهم ،كانوا يتهمونهم ،يسحبونهم بالسلاسل ،وبالتالي يقتلونهم .ورغم كل ذلك ،فإنّ هؤلاء قد وضعوا قدماً في هذا السبيل بإرادة حديدية ،وعشق ملتهب ،وعزم راسخ ،وإيمان عميق ،ووطنوا أنفسهم على تحمل أنواع المخاطر والمصاعب .
ومن بين هؤلاء كان سهم المهاجرين الأوّلين هو الأرجح ،ومن بعدهم الأنصار الأوائل ،أي الذين دعوا النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) إِلى المدينة واستقبلوه برحابة وأسكنوا أصحابه واعتبروهم كإخوانهم ،ودافعوا عنهم بكل وجودهم ،بل قدموهم حتى على قومهم .وإذا كانت الآية أعلاه قد أولت هذين القسمين اهتماماً خاصاً ،فلهذه العوامل .
إِلاّ أنّ القرآن الكريم في الوقت نفسهكما هي طريقته دائماًلم يبخس حقّ الآخرين ،وذكر كل الأقسام والفئات الأُخرى الذين التحقوا في عصر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )أو الأعصار التالية ،والذين هاجروا ،أو آووا المهاجرين ونصروهم تحت عنوان ( التابعين بإحسان ) ،وبشر الجميع بالأجر والجزاء الحسن .
2من هم التابعون ؟
اصطلح جماعة من العلماء على أنّ كلمة «التابعين » تعني تلامذة الصحابة ،وجعلوها من مختصاتهم ،أي أُولئك الذين لم يروا النّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،لكنّهم تصدوا لاكتساب العلوم الإِسلامية ووسعوها ،وبعبارة أُخرى: إنّهم اكتسبوا علومهم الإِسلامية من صحابة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ولكن مفهوم الآيةكما قلنا قبل قليلمن الناحية اللغوية لاينحصر بهذه المجموعة ولا يختص بها ،بل يشمل كل الفئات والمجموعات التي اتبعت برامج وأهداف الطلائع الإِسلامية والسابقون إِلى الإِسلام في كل عصر وزمان .
وتوضيح ذلك أنّه على خلاف ما يعتقده البعض من أن الهجرة والنصرةاللتين هما من المفاهيم الإِسلامية البناءةمختصتان بعصر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فإنّهما توجدان في كل عصروحتى في عصرنا الحاضرولكن بأشكال أُخرى ،وعلى هذا فإنّ كل الأفراد الذين يسيرون في هذا المسيرمسير الهجرة والنصرةيدخلون تحت هذين المفهومين .
إِذن ،المهم أن نعلم أن القرآن الكريم بذكره كلمة ( إِحسان ) يؤكّد على أن اتباع خط السابقين إِلى الإِسلام ،والسير في طريقهم يجب أن لا يبقى في حدود الكلام والإدعاء ،بل وحتى مجرّد الإِيمان الخالي من العمل ،بل يجب أن تكون هذه المتابعة أو الإِتباعً إتباعاً فكرياً وعملياً وفي كل الجوانب .
3من هو أوّل من أسلم ؟
إنّ أكثر المفسّرين يطرح هنا سؤالالمناسبة بحث الآيةوهو: من هو أوّل من أسلم ،وثبت هذا الافتخار العظيم باسمه في التاريخ ؟
وفي جواب هذا السؤال ،فقد قالوا بالإجماع ،إنّ أوّل من أسلم من النساء خديجة زوجة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) الوفية المضحية .وأمّا من الرجال فكل علماء الشيعة ومفسريهم ،وفريق كبير من أهل السنة قالوا: إنّ عليّاً( عليه السلام ) أوّل من أسلم ولبّى دعوة النّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
إنّ اشتهار هذا الموضوع بين علماء أهل السنة بلغ حداً ادعى جماعة منهم الإجماع عليه واتفقوا على ذلك .ومن جملة هؤلاء الحاكم النيسابوري في ( المستدرك على الصحيحين ) وفي كتاب ( المعرفة ) ،فإنّه يقول في ص 22: لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أوّلهم إِسلاماً ،وإنّما اختلفوا في بلوغه{[1663]} .
وكتب ابن عبد البر في ( الإِستيعاب ) ج2 ،ص 457: اتفقوا على أنّ خديجة أوّل من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به ،من علي بعدها{[1664]} .
وكتب أبو جعفر الإسكافي: قد روى الناس كافة افتخار علي بالسبق إِلى الإِسلام{[1665]} .
وبعد هذا ،فإنّ الرّوايات الكثيرة التي نقلت عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعن علي( عليه السلام ) نفسه ،والصحابةفي هذا الباب بلغت حد التواتر ،وكنموذج لها نورد هنا بعض الأحاديث:
1قال النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): «أوّلكم وروداً على الحوض أوّلكم إِسلاماً ،علي بن أبي طالب( عليه السلام ) »{[1666]} .
2نقل جماعة من علماء أهل السنة عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه أخذ بيد علي( عليه السلام ) وقال: «إنّ هذا أوّل من آمن بي ،وهذا أوّل من يصافحني ،وهذا الصديق الأكبر »{[1667]} .
3نقل أبو سعيد الخدري عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه وضع يده بين كتفي علي( عليه السلام ) وقال: «يا علي ،لك سبع خصال لا يحاجك فيهن أحد يوم القيامة: أنت أوّل المؤمنين بالله إِيماناً ،وأوفاهم بعهد الله ،وأقومهم بأمر الله ...»{[1668]} .
وكما أشرنا سابقاً ،فإنّ عشرات الرّوايات في مختلف كتب التاريخ والتّفسير والحديث قد نقلت عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وآخرين في هذا الباب ،ومن أراد مزيد الاطلاع فليراجع الجزء الثّالث من الغدير ص 220240 ،وكتاب إحقاق الحق الجزء 3 ص 114120 .
وهنا التفاتة لطيفة ،وهي أنّ جماعة لما لم يستطيعوا إنكار سبق علي( عليه السلام ) في الإِيمان والإِسلام سعوا إلى إنكار ذلك بأساليب أخر ،أو التقليل من أهمية هذا الموضوع ،والبعض يحاول أن يجعل أبا بكر مكان علي( عليه السلام ) ،ويدعي أنّه أول من أسلم .
فهم يقولون تارةً إنّ عليّاً( عليه السلام ) في ذلك الوقت كان في العاشرة من عمره ،وهو غير بالغ طبعاً ،وعلى هذا فإن إِسلامه يعني إِسلام صبي ،ومثل هذا الإِسلام لم يكن له تأثير في تقوية جبهة المسلمين وزيادة اقتدارهم في مقابل الأعداء ( هذا القول ذكره الفخر الرازي في تفسيره في ذيل الآية ) .
وهذا عجيب حقّاً ،وهو في الحقيقة إيراد واعتراض على شخص النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،
لأنا نعلم أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد عرض الإِسلام على عشيرته وقومه يوم الدار ،ولم يقبله إلاّ عليّ( عليه السلام ) حين قام وأعلن اسلامه ،فقبل النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) إسلامه ،بل وخاطبه بأنّك: أخي ووصيي وخليفتي .
إنّ هذا الحديث الذي نقله جماعة من حفاظ الحديث ،من الشيعة والسنة ،في كتب الصحاح والمسانيد ،وكذلك جمع من مؤرخي الإِسلام ،واستندوا عليه ،يبيّن أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) مضافاً إِلى قبوله إِسلام علي( عليه السلام ) في ذلك السن الصغير ،فإنّه عرفه للحاضرينوللناس فيما بعدبأنّه أخوه ووصيه وخليفته{[1669]} .
ويعبرون تارة أُخرى بأنّ أوّل من أسلم من النساء خديجة ،ومن الرجال أبو بكر ،ومن الصبيان علي( عليه السلام ) ،وأرادوا بهذا التعبير أن يقللوا من أهمية إسلام علي( عليه السلام ) .( ذكر هذا التعبير المفسّر المعروف والمتعصّب صاحب المنار في ذيل الآية المبحوثة ) .
إلاّ أنّ أوّلا: كما قلنا ،إِنّ سن علي( عليه السلام ) الصغير في ذلك اليوم لا يقدح في أهمية الأمر بأي وجه ،ولا يقلل من شأنه ،خاصّة وأن القرآن الكريم قال في شأن يحيى: ( وآتيناه الحكم صبياً ){[1670]} ،وكذلك نقرأ ما قاله في شأن عيسى( عليه السلام ) من أنّه تكلم وهو في المهد ،وخاطب أُولئك الذين وقعوا في حيرة وشك من أمره وقال: ( إِني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّا ){[1671]} .
إنّنا إِذا ما ضممنا مثل هذه الآيات إِلى الحديث الذي نقلناه آنفاً من أنّه( صلى الله عليه وآله وسلم )جعل عليّاً( عليه السلام ) وصيه وخليفته اتّضح أن كلام صاحب المنار لم يصدر إلاّ عن تعصب مقيت .
ثانياً: إِنّ من غير المسلم تاريخياً أنّ أبا بكر هو ثالث من أسلم ،بل ذكروا في كثير من كتب التاريخ والحديث جماعة أُخرى أسلمت قبله .
وننهي هذا البحث بذكر هذا المطلب ،وهو أنّ علياً( عليه السلام ) أشار مراراً وتكراراً في خطبه إِلى أنّه أوّل من أسلم ،وأوّل من آمن ،وأوّل من صلّى مع النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وبيّن موقعه من الإِسلام ،وهذه المسألة قد نقلت عنه في كثير من الكتب .
إِضافة إِلى أنّ ابن أبي الحديد نقل عن العالم المعروف أبي جعفر الإِسكافي المعتزلي ،أن البعض يقول: إِذا كان أبو بكر قد سبق إِلى الإِسلام ،فلماذا لم يستدل لنفسه بذلك في أي موقف ؟بل ولم يدّع ذلك أي أحد من مواليه من الصحابة{[1672]} .
4هل كان الصحابة كلهم صالحين ؟
لقد أشرنا سابقاً إِلى هذا الموضوع ،وإِلى أنّ علماء أهل السنة يعتقدونعادةبأن جميع أصحاب النّبي فاضلون وصالحون ومن أهل الجنّة .ولمناسبة الآية لهذا البحث ،والتي جعلها البعض دليلا قاطعاً على هذا المُدعى ،فإنّنا هنا نحلّل ونفصل هذا الموضوع المهم الذي يعتبر أساساً ومنبعاً لاختلافات كثيرة أُخرى في المسائل الإِسلامية .
إِنّ كثيراً من مفسّري أهل السنة نقلوا حديثاً في ذيل هذه الآية ،وهو أن حميد بن زياد قال: ذهبت إِلى محمّد بن كعب القرظي وقلت له: ما تقول في أصحاب رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟فقال: جميع أصحاب رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الجنّة ،محسنهم ومسيئهم!فقلت: من أين قلت هذا ؟فقال: إقرأ هذه الآية: ( والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ) إلى قوله تعالى ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ثمّ قال: لكن قد اشترط في التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمال الخير ( ففي هذه الصورة فقط هم من الناجين ،أمّا الصحابة فلم يشترط عليهم هذا الشرط ){[1673]} .
إلاّ أنّ هذا الإِدعاء لا يمكن قبوله ،وهو مردود بأدلة كثيرة:
أوّلا: إِن الحكم المذكور في الآية يشمل التابعين أيضاً ،والمقصود من التابعينكما أشرنا سابقاًكل الذين يتبعون المهاجرين والأنصار السابقين في معتقداتهم وأهدافهم وبرامجهم ،وعلى هذا فإنّ كل الأُمّة بدون استثناء ناجية .
وأمّا ما ورد في حديث محمّد بن كعب ،من أنّ الله سبحانه وتعالى قد ذكر قيد الإحسان في التابعين ،أي اتباع الصحابة في أعمالهم الحسنة ،لا في ذنوبهم ،فهو أعجب البحوث وأغربها ،لأنّ مفهوم ذلك إِضافة الفرع إِلى الأصل ،فعندما يكون شرط نجاة التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمالهم الحسنة ،فاشتراط هذا الشرط على الصحابة أنفسهم يكون بطريق أولى .
وبتعبير آخر فإنّ الله تعالى يبيّن في الآية أن رضاه يشمل كل المهاجرين والأنصار السابقين الذين كانت لهم برامج وأهداف صالحة ،وكل التابعين لهم ،لا أنّه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ،الصالح منهم والطالح ،أمّا التابعون فإنّه يرضى عنهم بشرط .
ثانياً: إنّ هذا الموضوع لا يناسب الدليل العقلي بأي وجه من الوجوه ،لأنّ العقل لا يعطي أي امتياز لأصحاب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فما الفرق بين أبي جهل وأمثاله ،وبين من آمنوا أوّلا ثمّ انحرفوا عن الدين ؟
ولماذا لا تشمل رحمة الباري والرضوان الإلهي الأشخاص الذين جاؤوا بعد النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسنوات وقرون ،ولم تكن تضحياتهم وجهادهم أقل ممّا عمله أصحاب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،بل قد امتازوا بأنهم لم يروا نبي الإسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،لكنّهم عرفوه وآمنوا به ؟
إنّ القرآن الذي يقول: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) كيف يرضى هذا التبعيض والتفرقة غير المنطقية ؟
إنّ القرآن الذي يلعن الظالمين والفاسقين في آياته المختلفة ،ويعدهم ممّن استوجب العقاب والعذاب الإِلهي ،كيف يوافق ويقرّ هذه الصيانة غير المنطقية للصحابة في مقابل الجزاء الإِلهي ؟!
هل إنّ مثل هذه اللعنات والتهديدات القرآنية قابلة للاستثناء ،وأن يخرج من دائرتها قوم معينون ؟لماذا ولأجل أي شي ؟!
وإذا تجاوزنا عن كل ذلك ،ألا يعتبر مثل هذا الحكم بمثابة إِعطاء الضوء الأخضر للصحابة ليرتكبوا من الذنب والجريمة ما يحلو لهم ؟
ثالثاً: إِنّ هذا الحكم لا يناسب المتون التأريخية الإِسلامية ،لأنّ كثيراً ممّن كان في صفوف المهاجرين والأنصار قد انحرف عن طريق الحق ،وتعرض لغضب الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) الملازم لغضب الله عزَّ وجلّ .ألم نقرأ في الآيات السابقة قصّة ثعلبة بن حاطب الأنصاري ،وكيف انحرف وأصبح مورد لعنة وغضب رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!
ونقول بصورة أوضح: إِذا كان مقصود هؤلاء أنّ أصحاب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يرتكبوا أي معصية ،وكانوا معصومين ،فهذا من قبيل إنكار البديهيات .
وإن كان مقصودهم أنّ هؤلاء قد ارتكبوا المعاصي ،وعملوا المخالفات ،إلاّ أنّ الله تعالى راض عنهم رغم ذلك ،فإنّ معنى ذلك أن الله سبحانه قد رضي بالمعصية !
من يستطيع أن يبرئ ساحة طلحة والزبير اللذين كانا في البداية من خواص أصحاب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وكذلك عائشة زوجة النّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) من دماء سبعة عشر ألف مسلم أريقت دماؤهم في حرب الجمل ؟هل أنّ الله عز وجل كان راضياً عن إِراقة هذه الدماء ؟!
هل إنّ مخالفة علي( عليه السلام ) خليفة رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )الذي إِذا لم نقبل النّص على خلافته فرضاً ،فعلى الأَقل كان قد انتخب بإجماع الأُمّةوشهر السلاح بوجهه وبوجه أصحابه الأوفياء شيء يرضى الله عنه ؟
في الحقيقة ،إنّ أنصار نظرية ( تنزيه الصحابة ) بإصرارهم على هذا المطلب والمبحث قد شوهوا صورة الإسلام الطاهر الذي جعل الإِيمان والعمل الصالح هو المعيار والأساس الذي يستند عليه في تقييم الأشخاص في كل المجالات وعلى أي الأحوال .
وآخر الكلام إن رضى الله سبحانه وتعالى في الآية التي نبحثها قد اتخذ عنواناً كلياً ،وهو الهجرة والنصرة والإِيمان والعمل الصالح ،وكل الصحابة والتابعين تشملهم رحمة الله ورضاه ما داموا داخلين تحت هذه العناوين ،فإذا خرجوا منها خرجوا بذلك عن رضى الله تعالى .
ممّا قلنا يتّضح بصورة جلية أنّ قول المفسّر العالملكنّه متعصبأي صاحب المنار ،الذي يشن هنا هجوماً عنيفاً وتقريعاً لاذعاً على الشيعة لعدم اعتقادهم بنزاهة الصحابة جميعاً ،لا قيمة له ،إذ الشيعة لا ذنب لهم إلاّ أنّهم قبلوا حكم العقل وشهادة التاريخ ،وشواهد القرآن وأدلّته التي وردت في هذه المسألة ،ولم يعتبروا الامتيازات الواهية ،والأوسمة التي أعطاها المتعصبون للصحابة بدون استحقاق .