التّفسير
مرّة أُخرى يدير القرآن المجيد دفة البحث إِلى أعمال المنافقين وفئاتهم ،فيقول: ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ) أي يجب أن لا تركزوا اهتمامكم على المنافقين الموجودين داخل المدينة ،بل ينبغي أن تأخذوا بنظر الاعتبار المنافقين المتواجدين في أطراف المدينة ،وتحذروهم ،وتراقبوا أعمالهم ونشاطاتهم الخطرة .وكلمة ( أعراب ) كما أشرنا تقال عادة لسكان البادية .
ثمّ تضيف الآية بأنّ في المدينة نفسها قسماً من أهلها قد وصلوا في النفاق إِلى أقصى درجاته ،وثبتوا عليه ،وأصبحوا ذوي خبرة في النفاق: ( ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ) .
( مردوا ) مأخوذة من مادة ( مرد ) بمعنى الطغيان والعصيان والتمرد المطلق ،وهي في الأصل بمعنى التعري والتجرّد ،ولهذا يقال لمن لم ينبت الشعر في وجهه:
( أمرد ) ،وشجرة مرداء ،أي خالية من أي ورقة ،والمارد هو الشخص العاصي الذي خرج على القانون وعصاه كلية .
وقال بعض المفسّرين وأهل اللغة: إِنّ هذه المادة تأتي بمعنى ( التمرين ) أيضاً .( ذكر في تاج العروس والقاموس أن التمرين واحد من معاني هذه الكلمة ) .وربّما كان ذلك ،لأنّ التجرد المطلق من الشيء ،والخروج الكامل من هيمنته لا يمكن تحققه بدون تمرين وممارسة .
على كل حال ،فإنّ هؤلاء المنافقين قد انسلخوا من الحق والحقيقة ،وتسلطوا على أعمال النفاق إِلى درجة أنّهم كانوا يستطيعون أن يظهروا في مصاف المؤمنين الحقيقيين ،دون أن ينتبه أحد إِلى حقيقتهم ومراوغتهم .
إنّ هذا التفاوت في التعبير عن المنافقين الداخليين والخارجيين في الآية يلاحظ جلياً ،وربّما كان ذلك إِشارة إِلى أنّ المنافقين الداخليين أكثر تسلطاً على النفاق ،وبالتالي فهم أشد خطراً ،فعلى المسلمين أن يراقبوا هؤلاء بدقّة ،لكن يجب أن لا يغفلوا عن المنافقين الخارجين ،بل يراقبونهم أيضاً .لذلك تقول الآية مباشرة بعد ذلك ( لا تعلمهم نحن نعلمهم ) ومن الطبيعي أنّ هذا إشارة العلم الطبيعي للنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ولكن هذا لا ينافي أن يقف كاملا على أسرارهم عن طريق الوحي والتعليم الإِلهي .
وفي النهاية تبيّن الآية صورة العذاب الذي سيصيب هؤلاء: ( سنعذّبهم مرّتين ثمّ يردون إِلى عذاب عظيم ) .
لا شك أنّ العذاب العظيم إِشارة إلى عذاب يوم القيامة ،إلاّ أنّ بين المفسّرين نقاشاً واحتمالات عديدة في نوعية العذابين الآخرين وماهيتهما .إلاّ أنّ الذي يرجحه النظر أن واحداً من هذين العذابين هو العقاب الاجتماعي لهؤلاء ،والمتمثل في فضيحتهم وهتك أسرارهم ،والكشف عمّا في ضمائرهم من خبيث النوايا ،وهذا يستتبع خسرانهم لكل وجودهم الاجتماعي ،والدليل على ذلك ما قرأناه في الآيات السابقة ،وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ أعمال هؤلاء عندما كانت تبلغ حد الخطر ،كان النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعرف هؤلاء الناس بأسمائهم وصفاتهم ،بل وربّما طردهم من المسجد .
والعذاب الثّاني هو ما أشارت إِليه الآية ( 50 ) من سورة الأنفال ،حيث تقول هناك: ( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ) .
ويحتمل أيضاً أن يكون العذاب الثّاني إشارة إلى المعاناة النفسية والعذاب الروحي الذي كان يعيشه هؤلاء نتيجة انتصارات المسلمين في كل الجوانب والأبعاد والمجالات .