سبب النّزول
نقلت روايات عديدة في سبب نزول هذه الآية ،ونواجه في أكثرها اسم ( أبي لبابة الأنصاري ) فهوحسب روايةقد امتنع مع اثنينأو أكثرمن أصحاب رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الاشتراك في غزوة تبوك ،لكنّهم لما سمعوا الآيات التي نزلت في ذم المتخلفين ندموا أشدّ الندم ،فجاؤوا إِلى مسجد النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وربطوا أنفسهم بأعمدته ،فلمّا رجع رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبلغه أمرهم قالوا بأنهم أقسموا أن لا يفكوا رباطهم حتى يفكّه رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فأجابهم رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّه يقسم أيضاً أن لا يفعل ذلك حتى يأذن له الله ،فنزلت الآية ،وقبل الله توبتهم ،ففكّ رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )رباطهم .
فأراد هؤلاء أن يشكروا ذلك ،فقدموا كل أموالهم بين يدي رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )وقالوا: إِنّ هذه الأموال هي التي صرفتنا ومنعتنا عن الجهاد ،فاقبلها منّا ،وأنفقها في سبيل الله ،فأخبرهم النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّه لم ينزل عليه شيء في هذا .فلم تمض مدّة حتى نزلت الآية التي تلي هذه الآية ،وأمرت النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يأخذ قسماً من أموال هؤلاء ،وحسب بعض الرّوايات فإنّه قبل ثلثها .
ونقرأ في بعض الرّوايات ،أن هذه الآية قد نزلت في قصّة بني قريظة مع أبي لبابة ،فإن بني قريظة قد استشاروا أبا لبابة في أن يسلّموا لحكم النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )وأوامره ،فأشار إِليهم بأنّهم إن سلّموا له فسيقتلهم جميعاً ،ثمّ ندم على ما صدر ،فتاب وشدّ نفسه بعمود المسجد ،فنزلت الآية ،وقبل الله تعالى توبته{[1674]} .
التّفسير
التّوابون:
بعد أن أشارت الآية السابقة إِلى وضع المنافقين في داخل المدينة وخارجها ،أشارت هذه الآية هنا إِلى وضع جمع من المسلمين العاصين الذين أقدموا على التوبة لجبران الأعمال السيئة التي صدرت منهم ،ورجاء لمحوها: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم )ويشملهم برحمته الواسعة ف ( إنّ الله غفور رحيم ) .
إنّ التعبير ب ( عسى ) في الآية ،والتي تستعمل في الموارد التي يتساوى فيها احتمال الفوز وعدمه ،أو تحقق الأمل وعدمه ،ربّما كان ذلك كيما يعيش هؤلاء حالة الخوف والرجاء ،وهما وسيلتان مهمتان للتكامل والتربية .
ويحتمل أيضاً أنّ التعبير ب ( عسى ) إِشارة إِلى وجوب الالتزام بشروط أُخرى في المستقبل ،مضافاً إِلى الندم على ما مضى والتوبة منه وعدم الاكتفاء بذلك بل يجب أن تجبر الأعمال السيئة التي ارتكبت فيما مضى بالأعمال الصالحة مستقبلا .
إِلاّ أنّنا إِذا لاحظنا أن الآية تُختم ببيان المغفرة والرحمة الإِلهية ،فإن جانب الأمل والرجاء هو الذي يرجح .
وهناك ملاحظة واضحة أيضاً ،وهي أن نزول الآية في أبي لبابة ،أو سائر المتخلفين عن غزوة تبوك لا يخصص المفهوم الواسع لهذه الآية ،بل إنّها تشمل كل الأفراد الذين خلطوا الأعمال الصالحة الحسنة بالسيئة ،وندموا على أعمالهم السيئة .
ولهذا نقل عن بعض العلماء قولهم: إِنّ هذه الآية أرجى آيات القرآن الكريم ،لأنّها فتحت الأبواب أمام المذنبين العاصين ،ودعت التّوابين إِلى الله الغفور الرحيم .