/م100
{ وآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ} أي وثم آخرون أو ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة أناس آخرون ليسوا من المنافقين ، ولا من السابقين الأولين ، ولا من الذين اتبعوهم بإحسان لا إساءة فيه ، بل من المؤمنين .
{ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً} أي خلطوا في أعمالهم بأن عملوا عملا صالحا وعملا سيئا ، وقيل معناه خلطوا صالحا بسيئ وسيئا بصالح ، أو خلطوا في كل منهما ما ليس منه ، فكان ناقصا ولكنه لم يغلب الآخر ويندغم فيه ، فلم يكونوا من الصالحين الخلص ولا من الفاسقين أو المنافقين ، ذلك بأنهم آمنوا وعملوا الصالحات ، واقترفوا بعض السيئات ، وهم أو منهم بعض الذين تخلفوا عن النفر والخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح كالضعفاء والمرضى وغير الواجدين ، ولا استئذان كاستئذان المرتابين ، ولا اعتذار كاذب كالمنافقين ، ثم كانوا ناصحين لله في أثناء قعودهم ، شاعرين بذنبهم ، خائفين من ربهم ، فكان كل من قعودهم ونصحهم مقترنا بالآخر ، كالذي يدخل أرضا مغصوبة فيصلح فيها ، ويعترف بأنه مذنب بدخولها ، ويأتي بالإصلاح لتكفير ذنب الاعتداء .وهذا المعنى لا يؤيده قولك:خلط العمل الصالح بالسيئ ، كما تقول خلط القمح بالشعير أو الماء باللبن ، لأن هذا الضرب من الخلط يصير فيه المخلوط والمخلوط به شيئا واحدا أو كالشيء الواحد ، فلا يقول صاحبه عندي ماء فرات ولا لبن محض ، وأما الضرب الأول المراد من الآية فقد بقي فيه كل من النوعين ممتازا بنفسه ، وإنما خلطه مع الآخر عبارة عن الجمع بينهما ، وعدم انفراد أحدهما دون الآخر ، والواو العاطفة هي التي تؤدي هذا المعنى من الجمع ، وهو من دقائق بلاغة القرآن بالعدول عن التعدية بالباء إلى العطف .
{ عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي هم محل الرجاء لقبول الله توبتهم ، التي يشير إلى وقوعها اعترافهم بذنوبهم ، وقد تقدم ( في ج 10 ) أن كلمة"عسى "وضعت للتقريب والإطماع ، ثم استعملت في الرجاء كلعل ، وقول بعضهم:إنها من الله للإيجاب غير صحيح ، أو لتوفيقهم للتوبة الصحيحة التي هي سبب المغفرة والرحمة ، وإنما تتحقق التوبة بالعلم الصحيح بقبح الذنب وسوء عاقبته ، وألم الوجدان من تصور سخط الله والخوف من عقابه ، والإقلاع عن الذنب أو الذنوب بباعث هذا الألم الذي هو ثمرة ذلك العلم ، والعزم على عدم العود إلى اقترافها ، ثم العمل بضدها ، ليمحي من النفس أثرها ، والروايات صريحة بأن اعتراف من ذكر بذنوبهم قد استتبع كل هذا .
{ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تعليل لرجاء قبول توبتهم ، إذ معناه أنه كثير المغفرة للتائبين واسع الرحمة للمحسنين ، كما قال:{ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [ طه:82] ، وكما قال:{ إن رحمة الله قريب من المحسنين} [ الأعراف:56] ، وكما قص علينا من خبر استغفار الملائكة للمؤمنين قولهم:{ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم}إلى قوله{ وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته} [ غافر:7 ، 8] .
قال بعض العلماء:إن هذه الآية أرجى آية في القرآن ، وقال آخرون:أرجى الآيات قوله تعالى:{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [ الزمر:53] ، وإنما هذا علاج لمن اشتد عليهم الخوف من إسرافهم في شهواتهم ، حتى كادوا يقنطون من رحمة ربهم ، لا للمصرين على ذنوبهم بغير مبالاة ، ولذلك قال بعدها:{ وأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [ الزمر:54] إلى آخر الآيات .
ومن العبرة في هذه الأقسام للمسلمين أن قسم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا يوجد في كل زمان ومكان ، كقسم الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، وأما المهاجرون والأنصار الأولون الذين أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بهم بناء الإسلام فهم الذين لا يلزّ بهم قرين ، ولا يلحقهم لاحق من العالمين ، ولعل أكثر المسلمين الصادقين في هذا الزمان من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ولعل أسوأ سيئاتهم ترك الجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، فيجب أن يسترشدوا بهذه الآية ، وبما ورد في سبب نزولها من توبة أبي لبابة وأصحابه .ولا تتم العبرة بها إلا بتدبر ما بعدها ، وهو تطهير النفس من النفاق وضعف الإيمان ، ببذل الصدقات وغيره من صالح الأعمال .
وقد روى البخاري في تفسير الآية في صحيحه عن سمرة بن جندب مرفوعا"أتاني الليلة ( أي في النوم ) ملكان فابتعثاني بي إلى مدينة بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء .قالا لهم:اذهبوا فقعوا في ذلك النهر ، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك ، قالا:وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم "{[1628]} اه .
فهذا تمثيل في الرؤيا لتحسين العمل الصالح وتجميله للنفس وتشويه العمل القبيح لها ، ولتطهيرها بالتوبة والعمل الصالح حتى تكون كلها حسنة جميلة وأهلا لدار الكرامة ، بعد أن تبعث في الصورة التي كانت عليها قبل التوبة .وقد قال تعالى:{ إن الحسنات يذهبن السيئات} [ هود:114] ، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس بنهر يفيض على عتبة الإنسان خمس مرات كل يوم"فهل يبقي عليها وسخا أو قذرا "؟