/م100
{ ومِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ومِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} بعد أن بين تعالى حال كملة المؤمنين كلهم قفى عليه بذكر مردة المنافقين من أهل البدو والحضر ، وعطفهم عليهم من باب عطف الضد على الضد ، فهو يقول:إن بعض الأعراب الذين حولكم أيها المؤمنون منافقون .قال البغوي:وهم من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار ، كانت منازلهم حول المدينة ، أي كما كان فيهم مؤمنون صادقون دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن من أهل المدينة نفسها منافقين أيضا من الأوس والخزرج غير مَن أعلم الله رسوله بهم في هذه السورة بما صدر عنهم من الأقوال والأفعال المنافية للإيمان ، وقد وصف هؤلاء بقوله:
{ مردوا على النفاق} أي مرنوا عليه وحذقوه حتى بلغوا الغاية من إتقانه ، وجعله بحيث لا يشعر أحد به ، لاتقائهم جميع الأمارات والشبهات التي تدل عليه .يقال مرد على الشيء يمرد ( كقعد يقعد ) مرودا إذا مرن عليه .وإذا عتا واشتد فيه حتى يتعذر إرجاعه عنه .ومن الأول الغلام الأمرد الذي لم ينبت الشعر في وجهه ، والشجرة المرداء التي لا ورق فيها ، ومنه مرد الشيء تمريدا إذا صقله وملسه حتى صار أملس لا حرشة فيه ولا خشونة ، ومنه ( صرح ممرد من قوارير ) قال في اللسان:وتأويل المرود أن يبلغ الغاية التي تخرج من جملة ما عليه الصنف .ثم قال:والمرود على الشيء المرون عليه ، ومرد على الكلام أي مرن عليه لا يعبأ به [ أي لا يعني أن يتكلف له] قال الله تعالى{ ومِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} [ التوبة:101] قال الفراء:يريد مرنوا عليه وجربوا ، كقولك تمردوا ، وقال ابن الأعرابي المرد التطاول بالكبر والمعاصي ومنه قوله:{ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} أي تطاولوا اه .
{ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي لا تعرفهم أيها الرسول بفطنتك ودقة فراستك التي تنظر فيها بنور الله لحذقهم في التقية وتجنب مثارات الشبهة ، وأكد هذا النفي بإثبات العلم بأعيانهم له وحده عز وجل ، ولعلهم أخفى نفاقا وأشد تقية ممن قال فيهم:{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ولَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ واللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [ محمد:29 ، 30] .
فهؤلاء ممن لم يعلمه الله بأعيانهم كما أعلمه بمن أشير إليهم في الآية [ 74] ، ولا فضحهم بأقوال قالوها ولا بأفعال فعلوها كما فضح غيرهم في هذه السورة ، لأنهم بمرودهم على النفاق يتحامون ما يكون شبهة على إيمانهم ، فضرره قاصر عليهم ، وحكمة إخباره تعالى إياه بذلك أن يعلموا هم أنه الله عليم بما يسرون من نفاقهم ، ويحذروا أن يفضحهم كما فضح غيرهم ، ليتوب المستعد للإيمان منهم وهو في ستر الله تعالى قبل أن ينجز ما أوعدهم بقوله:{ سنعذبهم مرتين} أي في الحياة الدنيا:إحداهما ما يصيبهم من المصائب وتوبيخ الضمائر ، وانتظار الفضيحة بهتك أستار السرائر ، وما يتلو ذلك من جهادهم إذا ظهر نفاقهم كغيرهم ، والثانية آلام الموت وزهوق أنفسهم وهم كافرون وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند موتهم ، فأقرب ما يفسر به العذاب مرتين هو ما تقدم في تفسير الآيات 55 و73 و74 و82 و83 ، ففيه بيان لكل ما يصيب المنافقين في الدنيا من عذاب الوجدان الباطن ، وعذاب من يفتضح أمرهم في الظاهر ، وورد في التفسير المأثور أقوال في هاتين المرتين بعضها في معنى ما ذكرنا وبعضها مردود ومتناقض .
{ ثم يردون إلى عذاب عظيم} أي في الآخرة وهو عذاب جهنم ، وهم في الدرك الأسفل منها كما تقدم .
جاء في كتب التفسير المأثور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس مرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن منكم منافقون فمن سميته فليقم "، ثم قال:قم يا فلان ، حتى سمى 36 رجلا ، فإن صح فهو عدد الذين سبق تهديدهم في هذه السورة لظهور نفاقهم دون الذين مردوا على النفاق ، ولكن لم يرو لنا ما كان من أمر هؤلاء بعد هذه الفضيحة بكفرهم ومنعهم من الصلاة ، ومقتضاه أن تجري عليهم أحكام المرتدين ، ومثل هذا لا يخفى وتتوفر الدواعي على نقله بالتواتر أو الاستفاضة ، ولم يرو المحدثون شيئا فيه ، والذي أراه أن الرواية غير صحيحة والله أعلم .
والعبرة في هذا السياق أن هؤلاء المنافقين فريقان:فريق عرفوا بأقوال قالوها وأعمال عملوها ، وفريق مردوا على النفاق وحذقوه حتى صار أملس ناعما لا يكاد يشعر أحد بشيء يستنكره منه فيظهر عليه ، وكل من الفريقين يوجد في كل عصر ، ولاسيما منافقي السياسة في هذا العهد ، وهم الذين اتخذهم الأجانب المعتدون على بلاد الإسلام دعاة وولائج وأعوانا على استعباد أمتهم واستعمار أوطانهم ، فما من قطر من هذه الأقطار التي رزئت بالأجانب إلا ولهم فيها أعوان وأنصار من أهلها يزعمون أنهم يخدمون أمتهم ووطنهم من طريق استمالتهم واسترضائهم ، وأنهم لولاهم لما وقفوا من الظلم وهضم الحقوق عند الحد الذي هم عليه ، ومنهم من يخدمون الأجانب خدما خفية لا تشعر بها الأمة ؛ لأنهم مردوا على النفاق ، وإنما يحتاج الخونة الخادمون للأجانب إلى النفاق ، وتلبيس خيانتهم وإخفائها بالكذب والاختلاق ، إذا كان للرأي العام فطنة وقوة يخشونها ، وأما البلاد التي استحوذ عليها الجهل والضعف فلا يبالي الخائنون برضاء أهلها ولا بسخطهم .
وأشد المنافقين مرودا وإتقانا للنفاق أعوان الملوك والأمراء المستبدين ، وشرهم وأضرهم الذين يلبسون لباس علماء الدين .