قوله تعالى:{وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} ذلك إخبار من الله ينبئ فيه رسوله والمؤمنين أن هناك منافقين حولكم من الأعراب .والمراد بحولكم ؛أي حول بلدتكم المدينة{ومن أهل المدينة} معطوف على{وممن حولكم} والمعنى: أن المنافقين من قوم حولكم ومن أهل المدينة .قوله:{مردوا على النفاق} أي مرنوا واستمروا عليه .ومردوا من المردود وأصله الملاسة .ومنه صرح ممرد .مرد مرودا ومردوة ومرادة فهو مارد ومريد متمرد ،أي عات{[1880]} والمراد هنا الاعتياد والتدرب في الأمر حتى بلوغ المهارة فيه والافتنان: كذلك كان شأن المنافقين في المدينة وما حولها ؛لقد كان هؤلاء المنافقون أهل براعة ومرونة وتمرس في الخداع والكذب حتى بات عزيزا على المرء أن يعرفهم أو يطلع على حقيقتهم .
قوله:{لا تعلمهم نحن نعلمهم} الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم المنافقين على التعيين وذلك لبراعتهم ورسوخهم في النفاق .ولعراقتهم في اصطناع التقية بما يكسوهم غشاء ممهدا أملس من الظاهر الصبوح الخادع .إنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم المنافقين ؛لأن النفاق مستكن في قلوبهم وهب من الخفي المستور الذي لا يقف عليه إلا علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية .ولذلك قال:{نحن نعلمهم} الله جل وعلا يعلم المنافقين علما كاملا ؛فهو سبحانه خلق الإنسان والكائنات ،وخلق القلوب وما فيها من الأسرار والنوايا فلا تخفى عليه ما تستسره قلوب المنافقين .
قوله:{سنعذبهم مرتين}{مرتين} ،منصوب من وجهتين: إما على المصدر ،وإما على الظرف الزمان{[1881]} .والمراد بتعذيبهم مرتين موضع خلاف ؛فقد قيل: المراد التكثير وليس التثنية ؛فيكون المعنى: سنعذبهم مرة بعد مرة .وقيل: المراد التثنية ؛فيكون المراد بالمرة الثانية عذاب القبر ،أما المرة الأولى فالمراد بها فضيحتهم ووصمهم بالنفاق ،فقد أخرج الطبري في الأوسط وغيره عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيبا فقال: ( قم يا فلان فاخرج فإنك منافق ،اخرج يا فلان فإنك منافق ،فأخرجهم بأسمائهم ،ففضحهم ولم يك عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له ،فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة ،وظن أن الناس قد انصرفوا واختبأوا هم منه ،وظنوا أنه قد علم بأمرهم ،فدخل المسجد فإذا لم ينصرفوا .فقال له رجل: أبشر يا عمر فقد فضح الله تعالى المنافقين اليوم ؛فهذا هو العذاب الأول ،والعذاب الثاني هو عذاب القبر .
قوله: ثم يردون إلى عذاب عظيم} وذلك يوم القيامة ؛إذ يصير المنافقون الذين آمنت ألسنتهم ،ولم يفض الإيمان إلى قلوبهم ؛بل أفضى إليها الغش والكيد وسوء النية –يصيرون إلى النار{[1882]} .