ذكر الله تعالى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين جاءوا من بعدهم واتبعوهم بإحسان في وسط الكلام في المنافقين ؛ ليتميز الخبيث من الطيب ، وليكونوا قدوة لهم إن أرادوا الهداية ، ولقد عاد القول إلى المنافقين فقال تعالى:{ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم 101} .
هذا هو الصنف الثاني ممن شملتهم الآيات الكريمة ، وهم الذين شغلواالكثيرمن الآيات الكريمات ، وشغلوا أفكار المسلمين بتخلفهم المرة بعد الأخرى ، واعتذارهم الكاذب في كل مرة ويحلفون بالله كاذبين مجترحين الأثام بعد الأثام ، ويكرر الله تعالى ذكرهم لأنهم آفة الجماعات ، وداؤها الدوى ، ولا تنهض جماعة إلا بإبعادهم عن بيئتها الفكرية .
{ وممن حولكم من الأعراب منافقون} وهم قبائل متخلفة- ذكر بعض المفسرين قبائلهم ، فقال من مزينة وجهينة ، وأسلم وغفار وأشجع ، ناس منهم وليسوا كلهم ، ولذا ذكر بعضهم ف"من"في قوله:{ ممن} أي ( من ) المدغمة في( من ) ، أي بعض من حولكم من الأعراب منافقون أتقنوا النفاق وأجادوه ، حتى إنهم ليحسنون إخفاء ما في بطونهم ، فلا تعرفهم في لحن القول ، كما تعرف غيرهم عن تكشف بعض أمرهم ، فقال الله تعالى فيهم:{. . . .ولتعرفونهم في لحن القول . . .30} ( محمد ) ، ولقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم:{ لا تعلمهم} أي مع فطنتك وقوة حسك ،{ نحن نعلمهم} المتكلم هو الله جل جلاله ، وهو يعلم ما تسره النفوس ، وما يناجون به فيما بينهم ، وهذا نفاق فيمن حولكم ، أي يحيطون بدياركم ويجب الحذر منهم والاحتياط لهم ، وتكشف أمرهم حتى لا يخدعوكم .
{ ومن أهل المدينة} الذين يتتبعون عورات المؤمنين ، ويتسمعون مواضع الضعف فيكم ، وهؤلاء أصلاء في النفاق من وقت أن رأوا القوة فيكم ، فأسروا الكفر وأظهروا الإسلام ، ودأبوا على النفاق ولجوا فيه ، حتى صار النفاق عليهم سهلا ميسرا ، وعبر الله تعالى عن دأبهم في النفاق{ مردوا على النفاق} وتجردوا له حتى خلصت نفوسهم له حتى صاروا لا يستطيعون الصدق أو أرادوه ، والإخلاص لأمر من الأمور ، ولقد صاروا مهرة ، من مرد فلان على العمل ، إذا مهر فيه .
ولذلك رتب على مرد أن الرسول الفطن الأريب لا يعلمهم ، والله علام الغيوب ، وما تحدث به النفوس يعلمهم ، وإن الله إذ يعلمهم يعذبهم في الدنيا والآخرة ، ولذا قال:{ سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وقوله تعالى:{ سنعذبهم مرتين} غير العذاب الأليم الذين يردون إليه ، وأن توزيع العذاب عليهم يجعل العذاب مرتين ، والعذاب الذي يردون إليه في الآخرة .
وقد اختلف المفسرون فيه ، فقيل العذاب مرتين عذاب الفضيحة ، وعذاب القبر ، وقيل العذاب مرتين الفضيحة ، وتنفيذ الحدود فيهم وأخذ الفرائض منهم .
وإنى أرجح أن العذاب مرتين هو الفضيحة ، ورد كيدهم في نحورهم ، وفساد تدبيرهم ، وغيظهم من أن المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم يخرجون من كل تدبير دبروه سالمين ، وأميل إلى الذين فسروا قوله تعالى:{ سنعذبهم مرتين} إلى أن مرتين كناية عن كثرة العدد ، وترادف المرة بعد المرة ، مثل قوله تعالى:{ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير4} ( الملك ) وقد عذبوا مرات ، كل مرة تتلوها أختها ، عذبوا بعد أحد ، وبعد الخندق ، ومن قبل وبعد بدر ، وفي كل غزوة كانوا يتمنون فيها الخسارة للمؤمنين ، ولقد قال تعالى فيهم:{ أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون126}
و( السين ) في قوله تعالى سنعذبهم لتأكيد وقوع العذاب المتكرر بهم ، وهو عذاب نفسي وعذاب بدني كما وقع لقريظة ، وعذاب مالي كما وقع لبني النضير وكل ذلك مع العذاب النفسي المستمر لغيرهم في كل الغزوات حتى تبوك .
قال تعالى:{ ثم يردون} ثم ينقلبون إلى عذاب عظيم في نار جهنم ، و( ثم ) هنا في معناها من حيث التفاوت بين عذاب الدنيا وهو مكرر ، وعذاب الآخرة الدائم الذي لا ينتهي ، ويريدون فيها معنى الدفع لهم عن الذي كانوا يحسبونه إلى عذاب عظيم ، والتنكير هنا لتكثيره وشدة آلامه ، كما قال تعالى:{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار . . .145}( النساء ) .