{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوبعليهم ان الله غفور رحيم102} .
هذا هو الصنف الثالث ، وهم الذين تخلفوا في غزوة تبوك ، فالقسم الأول من المهاجرين والأنصار ومن اتبعوهم بإحسان واقتدوا بهم ، وإن لم يسبقوا سبقهم وهؤلاء ما تخلفوا عن غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم ، والقسم الثاني المنافقون الذين تخلفوا وكانوا يتمنون الهزيمة للمؤمنين .
والقسم الأخير تخلفوا من غير معذرة ، ولم يدنسوا ألسنتهم بكذبهم ، وأحسوا بكبر ما فعلوا فاعترفوا بذنوبهم وأحسوا بوخز الإثم يحيك في صدورهم ، وكبر أمرهم في أنفسهم عندما نزلت الآية للمتخلفين ، فجاء بعضهم وربطوا أنفسهم على سواري المسجد وأقسموا ألا يحلوا أنفسهم إلا إذا حل رسول الله صلى الله عليه وسلم رباطهم ، فلما جاء من سفره وإنه كان من سنته أنه إذا جاء من سفر صلى لله ركعتين ، فلما رآهم أبى أن يحل وثاقهم حتى يجيء أمر الله بذلك ، وقد نذروا أن يتصدقوا بأموالهم إن غفر الله لهم تخلفهم ، فغفر الله تعالى لهم بهذه الآية التي فيها{ عسى الله أن يتوب عليهم}{[1274]} .
فلما تاب الله تعالى قدموا من أموالهم ، وبعضهم قدم كل أمواله تكفيرا عما اجترح من سيئة التخلف وهو قادر ، ويقول تعالى في شأنهم:{ خلطوا عملا صالحا} وهو الجهاد السابق والإيمان ، والإحساس بالذنب ، والتوبة النصوح ، والتصديق ، والأخر السيء ؛ وهو التخلف في الجهاد الذي بعدت فيه المشقة ، وهذا أمر سيئ ؛ لأنه عصيان لأمر الله تعالى ، ولأنه تخاذل في وقت الشدة ؛ ولأنه إيثار للراحة على الجهاد .
وقوله:{ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} ، أي جمعوا بين الخير والشر ، ولم يقل سبحانه وتعالى –ولكلامه المثل الأعلى – خلطوا بعمل صالح آخر سيئا من غير تمييز بين المخلوط والمخلوط به ؛ لأنه ليس المقصود معرفة المخلوط من المخلوط به ، إنما المقصود أنهم جمعوا بين الصالح والطالح ، وقوله تعالى:{ عسى الله أن يتوب عليهم} الرجاء ليس من الله إنما هو من العباد ، يرجون أن يتوب الله عليهم أي يرجع عليهم بقبول التوبة .
أو يقال إن الأمر ما دام قد اختلط الخير بالشر وكان الترجي فإن الأمر يرجى فيه قبول التوبة ؛ لأنه الحسنات يذهبن السيئات ، ولأن الخبر الغالب برحمة الله يذهب بالشر المغلوب ، وأن غفران الله ورحمته يطلبان قبول التوبة حيث كان لها مسوغ ، لأن الله تعالى يقبل التوبة من عباده ، ولأنه غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب ، وختم الله تعالى الآية بقوله:{ إن الله غفور رحيم} في هذه الجملة السامية تأكيد لمعنى الغفران وقبول التوبة رحمة بعباده ، وذلك لأن الجملة السامية مؤكدة الغفران والرحمة ب( إن ) الدالة على التوكيد ، وبالأوصاف للذات العلية{ غفور رحيم} وبالجملة الاسمية .