التّفسير
الزّكاة مطهرة للفرد والمجتمع:
في الآية الأُولى من هذه الآيات إِشارة إِلى أحد الأحكام الإِسلامية المهمّة ،وهي مسألة الزكاة ،حيث تأمر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بشكل عام أن ( خذ من أموالهم صدقة ) .
إنّ كلمة ( من ) التبعيضية توضح أنّ الزكاة تشكلدائماًجزءاً من الأموال ،لا أنّها تستوعب جميع الأموال ،أو الجزء الأكبر منها .
ثمّ تشير إلى قسمين من الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية للزكاة ،حيث تقول: ( تطهّرهم وتزكيهم بها ) فهي تطهرهم من الرّذائل الأخلاقية ،ومن حبّ الدنيا وعبادتها ،ومن البخل وغيره من مساوئ الأخلاق ،وتزرع مكانها خلال الحب والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في نفوسهم .وفوق كل ذلك فإنّ المفاسد الاجتماعية والانحطاط الخلقي والاجتماعي المتولّد من الفقر والتفاوت الطبقي والذي يؤدي إِلى وجود طبقة محرومة ،كل هذه الأُمور ستقتلع بتطبيق هذه الفريضة الإِلهية وأدائها ،وهي التي تطهر المجتمع من التلوث الذي يعيشه ويحيط به ،وكذلك سيفعّل التكافل الاجتماعي ،وينمو ويتطور الاقتصاد في ظل مثل هذه البرامج .
وعلى هذا فإنّ حكم الزكاة مطهر للفرد والمجتمع من جهة ويكرّس الفضيلة في النفوس من جهة أُخرى ،وهو سبب في تقدم المجتمع أيضاً ،ويمكن القول بأنّ هذا التعبير أبلغ ما يمكن قوله في الزكاة ،فهي تزيل الشوائب من جهة ،ووسيلة للتكامل من جانب آخر .
ويحتمل أيضاً في معنى هذه الآية أن يكون فاعل ( تطهّرهم ) هو الزكاة ،وفاعل ( تزكيهم ) ( النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) ،وعلى هذا سيكون معنى هذه الآية هو: إنّ الزكاة تطهرهم ،وإن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو الذي يربيهم ويزكيهم .
إِلاّ أنّ الأظهر أنّ الفاعل في كلا الفعلين هو النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،كما شرحنا وبيّنا ذلك في البداية ،رغم أنّه ليس هناك فرق كبير في النتيجة .
ثمّ تضيف الآية في خطابها للنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّك حينما تأخذ الزكاة منهم فادع لهم ( وصلّ عليهم ) .إِنّ هذا يدل على وجوب شكر الناس وتقديرهم ،حتى إِذا كان ما يؤدونه واجباً عليهم وحكماً شرعياً يقومون به ،وترغيبهم بكل الطرق ،وخاصّة المعنوية والنفسية ،ولهذا ورد في الرّوايات أنّ الناس عندما كانوا يأتون بالزكاة إِلى النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يدعو لهم يقول: «اللهم صل عليهم » .
ثمّ تقول الآية: ( إنّ صلاتك سكن لهم ) لأنّ من بركات هذا الدعاء أن تنزل الرحمة الإِلهية عليهم ،وتغمر قلوبهم ونفوسهم الى درجة أنّهم كانوا يحسون بها .
مضافاً إِلى ثناء النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،أو من يقوم مقامه في جمع زكاة أموال الناس بحدّ ذاته يبعث على خلق نوع من الراحة النفسية والفكرية لهم ،بحيث يشعرون بأنّهم إِن فقدوا شيئاً بحسب الظاهر ،فإنّهم قد حصلواقطعاًعلى ما هو أفضل منه .
اللطيف في الأمر ،أنّنا لم نسمع لحد الآن أن المأمورين بجمع الضرائب مأمورين بشكر الناس وتقديرهم ،إلاّ أنّ هذا الحكم الذي شُرع كحكم مستحب في الأوامر والأحكام الإِسلامية يعكس عمق الجانب الإِنساني في هذه الأحكام .
وفي نهاية الآية نقرأ: ( والله سميع عليم ) وهذا الختام هو المناسب لما سبق من بحث في الآية ،إذ أن الله سبحانه يسمع دعاء النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ومطلع على نيّات المؤدين للزّكاة .
ملاحظات
1يتّضح من سبب النزول المذكور لهذه الآية ،أنّ هذه الآية ترتبط بالآية التي سبقتها في موضوع توبة أبي لبابة ورفاقه ،لأنّهموكشكر منهم لقبول توبتهمأتوا بأموالهم ووضعوها بين يدي النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليصرفها في سبيل الله ،إلاّ أنّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) اكتفى بأخذ قسم منها فقط .
إِلاّ أنّ سبب النزول هذا لا ينافيمطلقاًأن هذه الآية بيّنت حكماً كلياً عاماً في الزكاة ،ولا يصحّ ما طرحه بعض المفسّرين من التضاد بين سبب نزولها وما بينته من حكم كلي ،كما قلنا ذلك مكرراً في سائر آيات القرآن وأسباب نزولها .
السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ،هو أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )حسب روايةقد قبل ثلث أموال أبي لبابة وأصحابه ،في الوقت الذي لا يبلغ مقدار الزكاة الثلث في أي مورد ،ففي الحنطة والشعير والتمر والزبيب العشر أحياناً ،وأحياناً جزء من عشرين جزءاً ،وفي الذهب والفضة ( 5 ،2% ) ،وفي الأنعام ( البقر والغنم والإِبل ) لا يصل إِلى الثلث مطلقاً .
لكن يمكن الإِجابة على هذا السؤال بأنَّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أخذ قسماً من أموالهم بعنوان الزكاة ،والمقدار الإِضافي الذي يكمل الثلث بعنوان الكفّارة عن ذنوبهم ،وعلى هذا فإنَّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أخذ الزكاة الواجبة عليهم ،ومقداراً آخر لتطهيرهم من ذنوبهم وتكفيرها فكان المجموع هو الثلث .
2إنّ حكم ( خذ ) دليل واضح على أنّ رئيس الحكومة الإِسلامية يستطيع أن يأخذ الزكاة من الناس ،لا أنّه ينتظر الناس فإن شاؤوا أدّوا الزكاة ،وإلاّ فلا .
3إِنَّ جملة ( صلّ عليهم ) وإن كانت خطاباً للنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،إلاّ أنّه من المسلّم أنّها في معرض بيان حكم كلّيلأنّ القانون الكلّي يعني أن الأحكام الإِسلامية تجري على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وباقي المسلمين على السواء ،ومختصات النّبي من جانب الأحكام يجب أن تثبت بدليل خاصّوعلى هذا فإنّ المسؤولين عن بيت المال في كلّ عصر وزمان يستطيعون أن يدعوا لمؤدي الزكاة بجملة: «اللّهم صلّ عليهم » .
وممّا يثير العجب أنّ بعض المتعصبين من العامّة لم يجوز الصلاة مستقلة على آل الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،أي أنّ شخصاً لو قال: ( اللّهمَّ صلِّ على عليّ أمير المؤمنين ) أو: ( صلِّ على فاطمة الزَّهراء ) فإِنَّهم اعتبروا ذلك ممنوعاً وحراماً !في الوقت الذي نعلم أنّ منع مثل هذا الدعاء هو الذي يحتاج إِلى دليل ،لا جوازه !
إِضافةً إِلى أنّ القرآن الكريمكما قلنا سابقاًقد أجاز بصراحة مثل هذا الدعاء في حق أفراد عاديين ،فكيف بأهل بيت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخلفائه ؟!لكن ،ماذا يمكن عمله ؟فإنّ التعصبات قد تقف أحياناً مانعة حتى من فهم آيات القرآن .
/خ104