قوله تعالى:{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم 103 ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم} .
اختلف العلماء في هذه الصدقة التي أمر الله بها في الآية .فقد قيل: المراد بها صدقة الفرض ( الزكاة ) وهو قول ابن عباس وجماعة .وقيل: إنها مخصوصة بهؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم ،الذين خلطوا عملا صالحا وآخر شيئا وهم أبو لبابة وأصحابه حين أطقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقالوا: يا رسول الله هذه أمولنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا .فقال لهم: ( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ) فأنزل الله{خذ من أموالهم صدقة} الآية .والصحيح أن هذا النص عام فهو يفيد بعمومه وجوب الصدقة في أموال المسلمين .ولا ينبغي لأحد أن يحتج بان هذا النص إنما كان خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم فهو وحده المخاطب به .وقد ورد عليهم الصدقة وسائر الصحابة هذا التأويل الفاسد فقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة مثلما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .وفي ذلك قال الصديق ( رضي الله عنه ): والله لو منعوني عناقا{[1886]} –وفي رواية: عقالا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقتلنهم على منعه .
على أن الأمر بأخذ الصدقة في هذه الآية نطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ ولا المأخوذ منه .ولا هو مقيد ببيان مقدار المأخوذ منه ؛فإن بيان ذلك كله في السنة المطهرة وإجماع العلماء .وذلكم هو بيان وجيز ومقتضب لمسائل الزكاة .
وأول الكلام في ذلك أن الزكاة إنما تجب على كل مسلم حر مالك للنصاب ملكا تاما .واختلفوا في وجوبها على الصغير والمجنون ؛فقد ذهب أكثر أهل العلم إلى وجوبها عليهما ،وهو قول علي ابن عمر وجابر وعائشة من الصحابة .وقالت به المالكية والشافعية والحنبلية ،وقال به الثوري وإسحق وأبو ثور وغيرهم .وذهب آخرون إلى عدم وجوبها عليهم ،وهو قول النخعي والحسن وسعيد بن جبير من التابعين .
وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة على الصغار والمجانين أو عدن إيجابها: هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية ،هل هي عبادة كالصلاة والصيام ،أم هي حق واجب للفقراء على الأغنياء .فمن قال: إنها عبادة ؛اشترط فيها العقل والبلوغ .ومن قال إنها حق واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء ؛لم يشترط العقل والبلوغ .
وثمة شرط آخر لوجوب الزكاة وهو حولان الحول فيما بلغ النصاب من الأموال باستثناء ما تنبته الأرض ؛فإنه تؤدي زكاته عند حصاده إذا بلغ النصاب ،على الخلاف في ذلك .وذلك للخبر الذي أخرجه الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ) .
أما ما تجب فيه الزكاة من الأموال فهي خمسة أصناف وهي: النقدان ( الذهب والفضة ) ثم الزروع والثمار مما تنبته الأرض ،ثم السوائم من الأنعام ،ثم عروض التجارة ،ثم المعدن والركاز .
أما الذهب: فتجب فيه الزكاة إذا بلغ نصابا وهو عشرون مثقالا ،ففيه نصف دينار ،وكذلك الفضة فيها الزكاة إذا بلغت نصابا وهو مائتا درهم ،ففيه خمسة دراهم .
وتختلفوا في الحلي من الذهب إذا أريد للزينة واللباس فقط ،فليس فيه زكاة في قول المالكية والشافعية ،وهو قو الليث وآخرين ؛وذلك لما رواه جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس في الحلي زكاة )؛ولأنه معد لاستعمال مباح فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل من الإبل والبقر{[1887]} وذلك بخلاف الحنفية ؛إذ قالوا بوجوب الزكاة في الحلي .واحتجوا بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأت أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها ،وفي يد ابنتها مسك من ذهب ،فقال: ( أتؤدين زكاة هذا ؟) قالت: لا .قال: ( أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوراين من نار ؟) .فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم .وقالت: هما لله ولرسوله .
أما ما تخرجه الأرض من الزروع والتمر: ففيه الزكاة ،ويشترط لوجوبها فيه: أن يكون مما يقتات به وقابلا للادخار .وهو قول المالكية والشافعية ؛إذ اشترط الاقتيات والادخار .وكذلك يشترط النصاب لوجوب الزكاة في الزروع والثمرات ،ونصابها خمسة أوسق .وذلك لما رواه أبو سعيد الخدري ( رضي الله عنه ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة ) .أما الحنفية فقالوا: ليس فيما تخرجه الأرض نصاب .بل تجب الزكاة في كل ما أخرجته ارض ما قل منه أو أكثر ،باستثناء الحطب والحشيش .واحتجوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: ( فيما سقت السماء العشر ،وفيما سقي بالنضح نصف العشر ) وعلى هذا فإنه في قول الحنفية تجب الزكاة في كل ما أنبتته الأرض من غير تفريق بين مقتات وغيره ،وسواء كان الخارج قليلا أو كثيرا ،استنادا إلى عموم الحديث .
أما المقدار الذي يجب أداؤه زكاة للزروع: فإنها يتحدد تبعا لكيفية السقاية ،فإن سقي الزروع بماء المطر أو من ينابيع الأرض ؛ففيه العشر .وإن سقي بالنضح من الآبار ونحوهما مما يكلف مؤونة وجهدا ؛ففيه نصف العشر .
أما سوائم الأنعام: فهي الإبل والبقر والغنم .أما الإبل: فنصابها خمس ،وفيها شاة .فإذا بلغت خمسا وعشرين ؛ففيها ابنة مخاض إلى خمسون وثلاثين .فإذا بلغت ستا وثلاثين ؛ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين .فإذا بلغت سنا وأربيعن ؛ففيها حقة إلى ستين .فإذا كانت واحدا وستين ؛ففيهما جذعة إلى خمس وسبعين ،فإذا بلغت ستا وسبعين ؛ففيها ابنتا لبون إلى تسعين .فإذا بلغت واحدا وتسعين ؛ففيها حقتان إلى عشرين ومائة .وأصل ذلك كتاب الصدقة الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به بعده أبو بكر وعمر .
أما البقر: فنصابها ثلاثون ،وفيها تبيع ،فإذا بلغت أربعين ؛ففيها مسنة ،فإذا بلغت ستين ؛ففيها تبيعان ،إلى سبعين ؛ففيها مسنة وتبيع .فإذا بلغت ثمانين ؛ففيها مسنتان .فإذا بلغت تسعين ؛ففيها ثلاثة أتبعة .فإذا بلغت مائة ؛ففيها تبيعان ومسنة وهكذا .
أما الغنم: فنصابها أربعون شاة .فإذا بلغت أربعين ؛ففيها شاة/ حتى تبلغ مائة وعشرين ،فإن زادت على المائة والعشرين ؛ففيها شاتان إلى مائتان .فإن زادت على المائتين ؛ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة .فإن زادت على الثلاثمائة ؛ففي كل مائة شاة شاة .وهذا هو قول الجمهور .
أنا عروض التجارة: فنصابها هو النصاب في الأعيان{[1888]} وعي الذهب والفضة وذلك عند الذين قالوا بوجوب الزكاة في العروض .ويشترط في أموال التجارة لتجب فيها الزكاة ما يشترط في الذهب والفضة من بلوغ النصاب وحولان الحول .
أما المعدن والركاز: فالمعدن في اللغة موضع الإقامة واللزوم .يقال: عدن بالمكان إذا لزمه فلم يبرح .ومنه: جنات عدن ؛أي جنات إقامة .وهو موضع استخراج الجوهر من ذهب ونحوه{[1889]} .
أما زكاة المعدن: ففيها خلاف من حيث التفضيل .فإذا استخرج مسلم حر من معدن في أرض موات أو في رض يملكها ،نصابا من الذهب أو الفضة ؛فقد وجب عليه الزكاة .ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال من الحارث المزني المعادن القبلية ،وأخذ منه الزكاة .أما إن وجده في أرض مملوكة لغيره ؛فهو لصاحب الأرض ،ويجب دفعه إليه فإذا أخذه مالكه وجب عليه زكاته .وإن وجد دون النصاب لم تلزمه الزكاة ؛لأن المعدن من أموال الزكاة ؛فلا تجب في غير النصاب ؛ولأنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاعتبر فيه النصاب كالعشر .وهو قول الشافعية والمالكية وآخرين .
أما الحول في زكاة المعدن ،فغير معتبر عند المالكية ،وكذا الشافعية في أظهر القولين لهم ؛لأن الحول يراد لتكامل النماء .وبوجود المعدن يحصل النماء فلم يعتبر فيه الحول كالشعر .وذهب آخرون إلى اعتبار الحور ؛لأنه زكاة في مال تكرر فيه الزكاة فاعتبر فيها الحول كسائر الزكوات .
أما الركاز: فهو دفين أهل الجاهلية .كأنه ركز في الأرض ركزا .ركز الرمح: أي غرزه في الأرض{[1890]} .
ويجب في الركاز الخمس .وذلك لما روي أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وفي الركاز الخمس )؛ولأنه يصل إليه من غير تعب ولا مؤنة فاحتمل الخمس ،ولا يجب ذلك إلا على من تجب عليه الزكاة ؛لأنه مال زكوي .ولا تجب إلا فيما وجده في موات أو مملوك لا يعرف مالكه ؛لأن الموت لا مالك له ،وما لا يعرف مالكه بمنزلة ما لا مالك له .أما إذا وجده في أرض يعرفها مالكها ،فإن كان ذلك لحربي ؛فهو غنيمة .وإن كان لمسلم أو لمعاهد ؛فهو لمالك الأرض{[1891]} .
أما التفصيل بأكثر من ذلك في مسألة الزكاة ؛فهو في مظانة من كتب الفقه .
قوله:{تطهرهم وتزكيهم بها} جملتان فعليتان في موضع نصب على الحال{[1892]} ؛أي خذها مطهرا لهم ومزكيا بها لهم ؛فهي تطهرهم من دنس الذنوب ،وتسمو بهم على خسائس أحوال المنافقين ومنازلهم ،إلى درجات الأتقياء والمقربين .
قوله:{وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم} أي ادع لهم بالمغفرة واستغفر لهم من الذنوب والآثام فدعاؤك واستغفارك رحمة لهم ووقار ،وفيه ما يطمئنهم بان ذنوبهم مغفورة وأنهم معفو عنهم .وذلك لما في اليقين بأن الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم لهو أكره ما تنبس به شفاه الداعين من المؤمنين والذاكرين والأبرار طرا .فدعاؤه صلى الله عليه وسلم مفعم بالبركة وكامل الصدق} فهو خليق بالقبول .قوله:{والله سميع عليم} اله سميع الدعاء فيستجيب للمؤمنين المخلصين .لا جرم أن الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم أخلق بالقبول والاستجابة ،والله سبحانه عليم بما في النوايا والقلوب .