أصل هذه اللفظة في اللغة يرجع إلى معنيين:
أحدهما:الدعاء والتبريك .
والثاني:العبادة .
فمن القول الأول:{ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [ التوبة:103] وقوله تعالى في حق المنافقين:{ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [ التوبة:84] وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا دعي أحدكم إلى الطعام فليجب فإن كان صائما فليصل » فسر بهما .
قيل:فليدع لهم بالبركة ، وقيل:يصلي عندهم بدل أكله .
وقيل:إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء ، والدعاء نوعان:دعاء عبادة ، ودعاء مسألة ، والعابد داع ، كما أن السائل داع ، وبهما فسر قوله تعالى:{ ادعوني أستجب لكم} [ غافر:60] قيل:أطيعوني أثبكم .
وقيل:سلوني أعطكم ، وفسر بهما قوله تعالى:{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [ البقرة:186] .
والصواب أن الدعاء يعم النوعين ، وهذا لفظ متواطئ لا اشتراك فيه .
فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى:{ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض} [ سبأ:22] وقوله تعالى:{ والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} [ النحل:20] وقوله تعالى:{ قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} [ الفرقان:77] والصحيح من القولين:لولا أنكم تدعونه وتعبدونه ، أي شيء يعبؤه بكم لولا عبادتكم إياه ، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل ، وقال تعالى:{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا} [ الأعراف:55 . 56] وقال تعالى إخبارا عن أنبيائه ورسله{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا} [ الأنبياء:90] .
وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى ، ودعوى الخلاف في مسمى الدعاء وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية ، هل هو منقول عن موضعه في اللغة . فيكون حقيقة شرعية ، أو مجازا شرعيا ؟ فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة ، وهو الدعاء ، والدعاء عبادة ودعاء مسألة ، والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة ، فهو في صلاة حقيقة لا مجازا ، ولا منقولة ، لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها كالدابة والرأس ونحوهما . فهذا غاية تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه ولهذا لا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي والله أعلم .
فصل [ في معنى صلاة الله على عباده]
هذه الصلاة من الآدمي .
وأما صلاة الله سبحانه على عبده فنوعان:( عامة ، وخاصة ) .
أما العامة:فهي صلاته على عباده المؤمنين ، قال تعالى:{ هو الذي يصلي عليكم وملائكته} [ الأحزاب:43] ومنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على آحاد المؤمنين كقوله:«اللهم صل على آل أبي أوفى » وفي حديث آخر:«أن امرأة قالت له:صل علي وعلى زوجي ، قال:صلى الله عليك وعلى زوجك » .
النوع الثاني صلاته الخاصة:على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم .
فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال:
أحدها:أنها رحمته ، قال إسماعيل:حدثنا نصر بن علي حدثنا محمد بن سواء عن جويبر عن الضحاك قال:«صلاة الله:رحمته ، وصلاة الملائكة الدعاء » .
وقال المبرد:أصل الصلاة «الرحمة » فهي من الله رحمة ، ومن الملائكة رحمة واستدعاء الرحمة من الله .
وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين .
والقول الثاني:أن صلاة الله مغفرته ، قال إسماعيل:حدثنا محمد بن أبي بكر . قال حدثنا محمد بن سواء عن جويبر عن الضحاك:{ هو الذي يصلي عليكموملائكته} قال صلاة الله مغفرته ، وصلاة الملائكة الدعاء .
وهذا القول من جنس الذي قبله ، وهما ضعيفان لوجوه:
أحدها:أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته ، فقال:{ وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [ البقرة:155 . 157] فعطف الرحمة على الصلاة:فاقتضى ذلك تغايرهما ، هذا أصل العطف .
وأما قولهم:«وألفى قولها كذبا ومينا » .
فهو شاذ نادر ، لا يحمل عليه أفصح الكلام ، مع أن المين أخص من الكذب .
الوجه الثاني:أن صلاة الله سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين . وأما رحمته فوسعت كل شيء ، فليست الصلاة مرادفة للرحمة ، لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها ، فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمراتها ومقصودها ، وهذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن .
والرسول صلى الله عليه وسلم يفسر اللفظة بلوازمها وجزء معناها كتفسير الريب بالشك ، والشك جزء من «الريب » وتفسير المغفرة بالستر ، وهو جزء مسمى «المغفرة » وتفسير «الرحمة » بإرادة الإحسان . وهو لازم الرحمة . ونظائر ذلك كثيرة قد ذكرناها في أصول التفسير .
الوجه الثالث:أنه لا خلاف في جواز الرحمة على المؤمنين ، واختلف السلف والخلف في جواز الصلاة على الأنبياء على ثلاثة أقوال ، سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى . فعلم أنهما ليسا بمترادفين .
الوجه الرابع:أنه لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر وأسقطت الوجوب عند من أوجبها ، إذا قال:اللهم ارحم محمدا وآل محمد ، وليس الأمر كذلك .
الوجه الخامس:أنه لا يقال لمن رحم غيره ورق عليه فأطعمه أو سقاه أو كساه إنه صلى عليه ، ويقال:إنه قد رحمه .
الوجه السادس:أن الإنسان قد يرحم من يبغضه ويعاديه ، فيجد في قلبه له رحمة ، ولا يصلي عليه .
الوجه السابع:أن الصلاة لا بد فيها من كلام . فهي ثناء من المصلي على من يصلي عليه ، وتنويه به وإشارة لمحاسنه وما فيه ، وذكره ذكر البخاري في «صحيحه » عن أبي العالية قال:«صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة » ، وقال إسماعيل في كتابه:حدثنا نصر بن علي قال حدثنا خالد بن يزيد عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية «أن الله وملائكته يصلون على النبي قال:صلاة الله - عز وجل - ثناؤه عليه ، وصلاة الملائكة عليه:الدعاء » .
الوجه الثامن:أن الله سبحانه فرق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعهما في فعل واحد . وقال:{ إن الله وملائكته يصلون على النبي} [ الأحزاب:56] وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة ، وإنما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه .
ولا يقال:الصلاة لفظ مشترك ، ويجوز أن يستعمل في معنييه معا ؛ لأن في ذلك ، محاذير متعددة:
أحدها:أن الاشتراك خلاف الأصل ، بل لا يعلم انه وقع في اللغة من واضع واحد ، كما نص على ذلك أئمة اللغة:منهم المبرد وغيره . وإنما يقع وقوعا عارضا اتفاقيا ، بسبب تعدد الواضعين ، ثم تختلط اللغة فيقع الاشتراك .
الثاني:أن الأكثرين لا يجووزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه ، لا بطريق الحقيقة ، ولا بطريق المجاز وما حكي عن الشافعي - رحمه الله - من تجويزه ذلك فليس بصحيح عنه ، وإنما أخذ من قوله:إذا أوصى لمواليه ، وله موال من فوق ومن أسفل تناول جميعهم . فظن من ظن أن لفظ المولى مشترك بينهما ، وأنه عند التجرد يحمل عليهما . وهذا ليس بصحيح ، فإن لفظ المولى من الألفاظ المتواطئة فالشافعي في ظاهر مذهبه يقولان بدخول نوعي الموالي في هذا اللفظ ، وهو عنده عام متواطئ لا مشترك .
وأما ما حكي عن الشافعي رحمه الله أنه قال في مفاوضة جرت له في قوله:{ أو لامستم النساء} [ المائدة:6] قد قيل له:قد يراد بالملامسة المجامعة ، فقال:هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا فهذا لا يصح عن الشافعي ، ولا هو من جنس المألوف من كلامه ، وإنما هذا من كلام بعض الفقهاء المتأخرين ، وقد ذكرنا على إبطال استعمال اللفظ المشترك في معنييه معا بضعة عشر دليلا في مسألة القرء في - كتاب «التعليق على الأحكام » .
فإذا كان معنى الصلاة هو الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم والعناية به ، وإظهار شرفه وفضله وحرمته ، كما هو المعروف من هذه اللفظة ، لم يكن لفظ الصلاة في الآية مشتركا محمولا على معنييه ، بل قد يكون مستعملا في معنى واحد ، وهذا هو الأصل وسنعود إلى هذه المسألة إن شاء الله تعالى في الكلام على قوله تعالى:{ إن الله وملائكته يصلون على النبي} [ الأحزاب:56] .