القول في تأويل قوله:وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:ومن الأعراب من يَعُدُّ نفقته التي ينفقها في جهاد مشرك، أو في معونة مسلم، أو في بعض ما ندب الله إليه عباده =(مغرما)، يعني:غرمًا لزمه، لا يرجو له ثوابًا، ولا يدفع به عن نفسه عقابًا =(ويتربص بكم الدوائر)، يقول:وينتظرون بكم الدوائر، (22) أن تدور بها الأيام والليالي إلى مكروهٍ ومجيء محبوب, (23) وغلبة عدوٍّ لكم. (24) يقول الله تعالى ذكره:(عليهم دائرة السوء)، يقول:جعل الله دائرة السوء عليهم, ونـزول المكروه بهم لا عليكم أيها المؤمنون, ولا بكم =(والله سميع)، لدعاء الداعين =(عليم) بتدبيرهم، وما هو بهم نازلٌ من عقاب الله، وما هم إليه صائرون من أليم عقابه. (25)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17094- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله:(ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر)، قال:هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياءً اتِّقاءَ أن يُغْزَوْا أو يُحارَبوا أو يقاتلوا, ويرون نفقتهم مغرمًا. ألا تراه يقول:(ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء)؟
* * *
واختلفت القرأة في قراءه ذلك.
فقرأ عامة قرأة أهل المدينة والكوفة:(عَلَيهِم دَائِرَةُ السَّوْءِ) بفتح السين, بمعنى النعت لـ "الدائرة ",وإن كانت "الدائرة "مضافة إليه, كقولهم:"هو رجل السَّوْء ","وامرؤ الصدق ",من كأنه إذا فُتح مصدرٌ من قولهم:سؤته أسوُءه سَوْءًا ومَساءَةً ومَسَائِيَةً. (26)
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض البصريين:(عَلَيهِم دَائِرَةُ السُّوْءِ) ، بضم السين، كأنه جعله اسمًا, كما يقال:عليه دائرة البلاء والعذاب. ومن قال:"عليهم دائرة السُّوء "فضم, لم يقل:"هذا رجل السُّوء "بالضم, و "الرجل السُّوء ",(27) وقال الشاعر:(28)
وكُـنْتُ كَـذِئْبِ السَّـوْءِ لَمَّـا رَأَى دَمًا
بِصَاحِبِـه يَوْمًـا أحَـالَ عَـلَى الـدَّمِ (29)
قال أبو جعفر:والصواب من القراءة في ذلك عندنا بفتح السين, بمعنى:عليهم الدائرة التي تَسُوءهم سوءًا. كما يقال:"هو رجل صِدْق "، على وجه النعت.
---------------------
الهوامش:
(22) انظر تفسير "التربص "فيما سلف ص:291 ، تعليق:2 ، والمراجع هناك .
(23) في المطبوعة "ونفى محبوب "، وأثبت ما في المخطوطة ، وهي سيئة الكتابة .
(24) انظر تفسير "الدوائر "فيما سلف 10:404 .
(25) انظر تفسير "سميع "و "عليم "فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) ، ( علم ) .
(26) انظر معاني القرآن للفراء 1:449 ، 450 .
(27) انظر معاني القرآن للفراء 1:450 .
(28) هو الفرزدق .
(29) ديوانه:749 ، وطبقات فحول الشعراء:306 ، والحيوان 5:319 ، 6:298 ، واللسان (حول) ، وغيرها كثير ، من أبيات لها خبر طويل . وقوله:"أحال على الدم "، أي:أقبل عليه . والذئبان ربما أقبلا على الرجل إقبالا واحدًا ، وهما سواء على عداوته والجزم على أكله ، فإذا أدمى أحدهما وثب على صاحبه فمزقه وأكله ، وترك الإنسان ( من كلام الجاحظ ) . وقد كرر الفرزدق هذا المعنى في قوله:
فَتًـى لَيْسَ لابْنِ العَمِّ كالذِّئْبِ , إن رَأَى
بِصَاحِبِــهِ يَوْمًـا دَمًـا فَهْـوَ آكِلُـهُ
.