قوله تعالى:{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} .
لم يبيّن هنا هذا الذي كلمه اللَّه منهم وقد بيّن أن منهم موسى عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام بقوله:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيما 164ً} ،وقوله:{إني اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكلامِي} .
قال ابن كثير مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ يعني موسى ومحمّدًا صلّى اللَّه عليهما وسلم ،وكذلك آدم كما ورد في الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذرّ رضي اللَّه عنه .
قال مقيده - عفا اللَّه عنه - تكليم آدم الوارد في صحيح ابن حبان يبيّنه قوله تعالى:{وَقُلْنَا يَا آدَمُ َ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ،وأمثالها من الآيات فإنه ظاهر في أنه بغير واسطة الملك ،ويظهر من هذه الآية نهي حواء عن الشجرة على لسانه ،فهو رسول إليها بذلك .قال القرطبي في تفسير قوله تعالى:{مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ} ،ما نصه: وقد سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟فقال: نعم نبي مكلم ،قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة ،فعلى هذا تبقى خاصية موسى ا ه .وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى} ،في سورة البقرة ما نصّه: لأن آدم كان هو النبيّ صلى الله عليه وسلم أيام حياته ،بعد أن أهبط إلى الأرض ،والرسول من اللَّه جلّ ثناؤه إلى ولده ،فغير جائز أن يكون معنيًا وهو - الرسول صلى الله عليه وسلم - بقوله:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى} ،أي: رسل ا ه محل الحجة منه بلفظه .وفيه وفي كلام ابن كثير المتقدم عنصحيح ابن حبان التصريح بأن آدم رسول وهو مشكل مع ما ثبت في حديث الشفاعة المتفق عليه من أن نوحًا عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام أول الرسل ويشهد له قوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ} ،والظاهر أنه لا طريق للجمع إلا من وجهين:
الأول: أن آدم أرسل لزوجه وذرّيته في الجنة ،ونوح أول رسول أرسل في الأرض ،ويدلّ لهذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما ،ويقول: « ولكن ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه اللَّه إلى أهل الأرض» ،الحديث .فقوله إلى أهل الأرض ،لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض ،لكان ذلك الكلام حشوًا ،بل يفهم من مفهوم مخالفته ما ذكرنا .ويتأنس له بكلام ابن عطية الذي قدمنا نقل القرطبي له .
الوجه الثاني: أن آدم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه ،ونوح هو أول رسول أرسل لقوم كافرين ينهاهم عن الإشراك باللَّه تعالى ،ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده ،ويدل لهذا الوجه قوله تعالى:{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية .أي: على الدين الحنيف ،أي حتى كفر قوم نوح ،وقوله:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ} الآية .واللَّه تعالى أَعلم .
وقوله تعالى:{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}
أشار في مواضع أُخر إلى أن منهم محمّدًا صلى الله عليه وسلم كقوله:{لك عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا 79} ،أو قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} الآية .وقوله:{إني رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ،وقوله:{تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً 1} .وأشار في مواضع أُخر إلى أن منهم إبراهيم كقوله:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً 120} ،وقوله:{إني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ،إلى غير ذلك من الآيات .وأشار في موضع آخر إلى أن منهم داود وهو قوله:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً 55} ،وأشار في موضع آخر إلى أن منهم إدريس وهو قوله:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً 57} ،وأشار هنا إلى أن منهم عيسى بقوله:{وَآتَيْنَا عيسَى ابن مريم البينات} الآية .
تنبيه: في هذه الآية الكريمة ،أعني قوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية .إشكال قوي معروف .ووجهه: أنه ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: « لا تخيروني على موسى ،فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ،فإذا موسى باطش بجانب العرش ،فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى اللَّه» ،وثبت أيضًا في حديث أبي سعيد المتفق عليه: « لا تخيروا بين الأنبياء ،فإن الناس يصعقون يوم القيامة» الحديث ،وفي رواية: « لا تفضلوا بين أنبياء اللَّه» ،وفي رواية: « لا تخيروني من بين الأنبياء» .وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصّه: وهذه الآية مشكلة ،والأحاديث ثابتة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تخيروا بين الأنبياء ""لا تفضلوا بين أنبياء اللَّه "،رواها الأئمة الثقاة ،أي: لا تقولوا فلان خير من فلان ،ولا فلان أفضل من فلان ،ا ه .
قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصّه: والجواب من وجوه .أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل ،وفي هذا نظر .الثاني: أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع .الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذا الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر .الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية .الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم ،وإنما هو إلى اللَّه عزّ وجلّ ،وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به ، ا ه منه بلفظه .وذكر القرطبي في تفسيره أجوبة كثيرة عن هذا الإشكال ،واختار أن منع التفضيل في خصوص النبوة ،وجوازه في غيرها من زيادة الأحوال والخصوص والكرامات فقد قال ما نصه: قلت وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة هو التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها ،وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات .
وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل ،وإنما تتفاضل بأمور أُخر زائدة عليها ،ولذلك منهم رسل وأولو عزم ،ومنهم من اتخذ خليلاً ،ومنهم من كلّم اللَّه ورفع بعضهم درجات .قال اللَّه تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً 55} ،قلت: وهذا قول حسن ،فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ ،والقول بتفضيل بعضهم على بعض ،إنما هو بما منح من الفضائل وأعطى من الوسائل ،وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن اللَّه فضل محمّدًا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء ،فقالوا: بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟فقال: إن اللَّه تعالى قال:{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إِلاه مّن دُونِهِ فَذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ 29} ،وقال لمحمّد صلى الله عليه وسلم:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً 1 لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .قالوا: فما فضله على الأنبياء ؟قال: قال اللَّه تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ} ،وقال اللَّه عزّ وجلّ لمحمّد صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} ،فأرسله إلى الجن والإنس ،وذكره أبو محمد الدارمي في مسنده ،وقال أبو هريرة: خير بني آدم نوح وإبراهيم وموسى ومحمّد صلى الله عليه وسلم وهم أولو العزم من الرسل ،وهذا نصّ من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين ،ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل ؛فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة ،واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم ،وهذا مما لا خفاء به .ا ه محل الغرض منه بلفظه .
واختار ابن عطية كما نقله عنه القرطبي أن وجه الجمع جواز التفضيل إجمالاً كقوله صلى الله عليه وسلم: « أنا سيد ولد آدم ولا فخر» ،ولم يعين ومنع التفضيل على طريق الخصوص كقوله: « لا تفضلوني على موسى» ،وقوله: « لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متَّى» ،ونحو ذلك والعلم عند اللَّه تعالى . قوله تعالى:{الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون 262} يفهم من هذه الآية أن من أتبع إنفاقه المن و الأذى لم يحصل له هذا الثواب المذكور هنا في قوله:{لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون 262} وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في قوله:{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} الآية .