التّفسير
دور الأنبياء في حياة البشر:
هذه الآية تشير إلى درجات الأنبياء ومراتبهم وجانباً من دورهم في حياة المجتمعات البشرية ،تقول الآية: ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) .
«تلك » اسم إشارة للبعيد .والإشارة إلى البعيدكما نعلمتستعمل أحياناً لإضفاء الإحترام والتبجيل على مقام الشخص أو الشيء المشار إليه ،هنا أيضاً أُشير إلى الرسل باسم الإشارة «تلك » لتبيان مقام الأنبياء الرفيع .
واختلف المفسّرون في المقصود بالرسل هنا ،هل هم جميع الرسل والأنبياء ؟
أم هم الرسل الذين وردت أسماؤهم أو ذكرت حكاياتهم في ما سبق من آيات هذه السورة فقط ،مثل إبراهيم ،موسى ،عيسى ،داود ،اشموئيل ؟أم هم جميع الرسل الذين ذكرهم القرآن حتّى نزول هذه الآية ؟
ولكن يبدو أنّ المقصود هم الأنبياء والمرسلون جميعاً ،لأنّ كلمة «الرسل » جمع حلّيَ بالألف واللام الدالّتين على الإستغراق ،فتشمل الرسل كافّة .
( فضّلنا بعضَهم على بعض ) .
يتّضح جليّاً من هذه الآية أنّ الأنبياءوإن كانوا من حيث النبوّة والرسالة متماثلينهم من حيث المركز والمقام ليسوا متساوين لاختلاف مهمّاتهم ،وكذلك مقدار تضحياتهم كانت مختلفة أيضاً .
( منهم من كلّم اللهُ ) .
هذه إشارة إلى بعض فضائل الأنبياء ،وواضح أنّ المقصود بالآية موسى ( عليه السلام )المعروف باسم «كليم الله » ،كما أنّ الآية 163 من سوره النساء تقول عنه ( وكلّم الله مُوسى تكليماً ) .
أمّا القول بأنّ المقصود هو نبيّ الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنّ التكليم المنظور هنا هو التكليم الذي كان في ليلة المعراج مع الرسول ،أو أنّ المراد هو الوحي الإلهي الذي ورد في آية 51 من سورة الشورى ( وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحيا ...)حيث اُطلق عليه عنوان التكلّم ،فإنّه بعيد جدّاً ،لأنّ الوحي كان شاملاً لجميع الأنبياء ،فلا يتلائم مع كلمة «منهم » لأنّ ( من ) تعبضيّة .
ثمّ تضيف الآية ( ورفع بعضهم درجات )
ومع الالتفات إلاّ أنّ الآية أشارت إلى التفاضل بين الأنبياء بالدّرجات والمراتب ،فيمكن أن يكون المراد في هذا التكرار إشارة إلى أنبياء معيّنين وعلى رأسهم نبيّ الإسلام الكريم لأنّ دينه آخر الأديان وأكملها ،فمن تكون رسالته الابلاغ أكمل الأديان لابدّ أن يكون هو نفسه أرفع المرسلين ،خاصّةً وأنّ القرآن يقول فيه في الآية 41 من سورة النّساء ( فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ){[416]} .
والشاهد الآخر على هذا الموضوع ،وهو أنّ الآية السابقة تشير إلى فضيلة موسى ( عليه السلام ) ،والآية التالية تبيّن فضيلة عيسى ( عليه السلام ) ،فالمقام يتطلّب الإشارة إلى فضيلة رسول الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،لأنّ كلّ واحد من هؤلاء الأنبياء الثلاثة كان صاحب أحد الأديان الثلاثة العظيمة في العالم .فإذا كان اسم نبيّ الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد جاء بين اسميهما ،فلا عجب في ذلك ،أوَليس دينه الحدّ الوسط بين دينيهما وأنّ كلّ شيء قد جاء فيه بصورة معتدلة ومتعادلة ؟ألا يقول القرآن: ( وكذلك جعلناكم أُمّة وسطاً ){[417]}!
ومع ذلك ،فإنّ العبارات المتقدّمة في هذه الآية تدلّ على أنّ المقصود من ( رفع بعضهم درجات ) هم بعض الأنبياء السابقين ،مثل إبراهيم إذ يقول سبحانه في الآية التالية: ( ولو شاءَاللهُ ما اقتتل الذين من بعدهم ) أي لو شاء الله ما أخذت اُمم هؤلاء الأنبياء تتقاتل فيما بينها بعد رحيل أنبيائها .
( وآتينا عيسى بن مريم البيّنات وأيّدناه بروح القدس ) .
أي أنّنا وهبنا عيسى ( عليه السلام ) براهين واضحة مثل شفاء المرضى المزمنين وإحياء الموتى والمعارف الدينيّة الساميّة .
أمّا المراد من ( روح القدس ) هل هو جبرئيل حامل الوحي الإلهي ،أو قوى أخرى غامضة موجودة بصورة متفاوتة لدى أولياء الله ؟تقدّم البحث مشروحاً في الآية 87 من سورة البقرة ،وعندما تؤكّد هذه الآية على أنّ عيسى ( عليه السلام ) كان مؤيّداً بروح القدس فلأنّه كان يتمتّع بسهم أوفر من سائر الأنبياء من هذه الرّوح المقدّسة .
وتشير الآية كذلك إلى وضع الأمم والأقوام السالفة بعد الأنبياء والاختلافات التي جرت بينهم فتقول: ( ولو شاء الله ما اقتتل الّذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البيّنات ) فمقام الأنبياء وعظمتهم لن يمنعا من حصول الاختلافات والإقتتال والحرب بين أتباعهم لأنّها سنّة إلهيّة أن جعل الله الإنسان حرّاً ولكنّه أساء الإستفادة من هذه الحريّة ( ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ) .
ومن الواضح أنّ هذا الاختلاف بين الناس ناشىءٌ من اتّباع الأهواء والشّهوات وإلاّ فليس هناك أيّ صراع واختلاف بين الأنبياء الإلهيّين حيث كانوا يتّبعون هدفاً واحداً .
ثمّ تؤكّد الآية أنّ الله تعالى قادرٌ على منع الاختلافات بين النّاس بالإرادة التكوينيّة وبالجبر ،ولكنّه يفعل ما يريد وفق الحكمة المنسجمة مع تكامل الإنسان ولذلك تركه مختاراً ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكنّ الله يفعل ما يريد ) .
ولا شكّ في أنّ بعض الناس أساء استخدام هذه الحريّة ،ولكنّ وجود الحريّة في المجموع يُعتبر ضروريّاً لتكامل الإنسان ،لأنّ التكامل الإجباري لا يُعدّ تكاملاً .
وضمناً يُستفاد من هذه الآية الّتي تعرّضت إلى مسألة الجبر مرّة أخرى بطلان الاعتقاد بالجبر ، حيث تثبت أنّ الله تعالى ترك الإنسان حرّاً فبعضٌ آمن وبعضٌ كفر .
مسألة:
هل الأديان تسبّب الاختلافات ؟
يتّهم بعض الكتّاب الغربيين الأديان على أنّها هي سبب التفرقة والنزاع بين أفراد البشر ،وهي السبب في إراقة الكثير من الدماء ،فالتاريخ شهد الكثير من الحروب الدينية ،وهكذا سعوا إلى إدانة الأديان واعتبارها من الأسباب المثيرة للحروب والمخاصمات .
وإزاء هذا القول لابدّ من الإنتباه إلى ما يلي:
أولاً: أنّ الاختلافاتكما جاء في الآية المذكورةلا تنشأ في الحقيقة بين الأتباع الصادقين لدين من الأديان ،بل هي بين أتباع الدين ومخالفيه .وإذا ما شاهدنا صراعاً بين أتباع مختلف الأديان فإنّ ذلك لم يكن بسبب التعاليم الدينية ،بل بسبب تحريف التعاليم والأديان وبالتعصّب المقيت ومزج الأديان السماوية بالخرافات .
ثانياً: إنّ الدينأو تأثيرهقد انحسر اليوم عن قسم من المجتمعات البشرية ،ومع ذلك نرى أنّ الحروب قد ازدادت قسوةً واتساعاً وانتشرت في مختلف أرجاء العالم .فهل أن الدين هو السبب ،أم أنّ روح الطغيان في مجموعة من البشر هي السبب الحقيقي لهذه الحروب ،ولكنّها تظهر اليوم بلبوس الدين ،وفي يوم آخر بلبوس المذاهب الاقتصادية والسياسية ،وفي أيّام أخرى بقوالب ومسمّيات أخرى ؟ !وعليه فالدِين لا ذنب له في هذا ،إنّما الطغاة هم الذين يشعلون نيران الحروب بحجج متنوّعة .
ثالثاً: إنّ الأديان السماويةوعلى الأخصّ الإسلامالتي تكافح العنصرية والقومية ،كانت سبباً في إلغاء الحدود العنصرية والجغرافية والقبلية ،فقضت بذلك على الحروب التي كانت تثار باسم هذه العوامل .وعليه فإن الكثير من الحروب في التاريخ قد خمدت نيرانها بفضل الدين .كما أنّ روح السلام والصداقة والأخلاق والعواطف الإنسانية التي ترفع لواءها جميع الأديان السماوية ،كان لها أثر عميق في تخفيض الخصومات والمشاكسات بين مختلف الأقوام .
رابعاً: أنّ من رسالات الأديان السماوية تحرير الطبقات المحرومة المعذّبة ، وكانت هذه الرسالة هي سبب الحروب التي شنّها الأنبياء وأتباعهم على الظالمين والمستغلّين ،من أمثال فرعون والنمرود .إنّ هذه الحروب التي تعتبر جهاداً في سبيل تحرير الإنسان ،ليست عيوباً تلصق بالأديان ،بل هي من مظاهر فخرها واعتزازها وقوّتها .إنّ حروب رسول الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع المشركين من العرب والمرابين في مكّة من جهة ،ومع قيصر وكسرى من جهة أخرى ،كانت كلّها من هذا القبيل .