قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يدفع السوء عن عباده الذين آمنوا به إيماناً حقاً ،ويكفيهم شر أهل السوء ،وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى:{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [ الطلاق: 3] .وقوله:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [ الزمر: 36] وقوله تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [ التوبة: 14-15] وقوله تعالى:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ} [ غافر: 51] .وقوله:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} [ الروم: 37] وقوله:{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [ الصافات: 173] إلى غير ذلك من الآيات ،وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} بفتح الياء والفاء بينهما دال ساكنة مضارع دفع المجرد ،وعلى هذه القراءة ،فالمفعول محذوف أي يدفع عن الذين آمنوا الشر والسوء ،لأن الإيمان بالله هو أعظم أسباب دفع المكاره ،وقرأ الباقون: يدافع بضم الياء ،وفتح الدال بعدها ألف .وكسر الفاء مضارع دافع المزيد فيه ألف بين الفاء والعين على وزن فاعل .وفي قراءة الجمهور هذه إشكال معروف ،وهو أن المفاعلة تقتضي بحسب الوضع العربي اشتراك فاعلين في المصدر .والله جل وعلا يدفع كل ما شاء من غير أن يكون له مدافع يدفع شيئاً .
والجواب: هو ما عرف من أن المفاعلة قد ترد بمعنى المجرد ،نحو: جاوزت المكان بمعنى جزته ،وعاقبت اللص ،وسافرت ،وعافاك الله ،ونحو ذلك ،فإن فاعل في جميع ذلك بمعنى المجرد ،وعليه فقوله: يدافع بمعنى: يدفع .كما دلت عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ،وقال الزمخشري: ومن قرأ يدافع فمعناه: يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ اه منه ،ولا يبعد عندي أن يكون وجه المفاعلة أن الكفار يستعملون كل ما في إمكانهم لإضرارهم بالمؤمنين ،وإيذائهم ،والله جل وعلا يدفع كيدهم عن المؤمنين ،فكان دفعه جل وعلا لقوة عظيمة أهلها في طغيان شديد ،يحاولون إلحاق الضرر بالمؤمنين وبهذا الاعتبار كان التعبير بالمفاعلة ،في قوله: يدافع ،وإن كان جل وعلا قادراً على إهلاكهم ،ودفع شرهم عن عباده المؤمنين ،ومما يوضح هذا المعنى الذي أشرنا إليه قول كعب بن مالك رضي الله عنه:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها *** وليغلبن مغالب الغلاب
والعلم عند الله تعالى: ومفعول يدافع: محذوف فعلى القول بأنه بمعنى: يدفع فقد ذكرنا تقديره ،وعلى ما أشرنا إليه أخيراً فتقدير المفعول: يدافع عنهم أعداءهم ،وخصومهم فيرد كيدهم في نحورهم .
وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} .
صرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة: بأنه لا يحب كل خوان كفور .والخوان والكفور كلاهما صيغة مبالغة ،لأن الفعال بالتضعيف والفعول بفتح الفاء من صيغ المبالغة ،والمقرر في علم العربية أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل ،فلو قلت: زيد ليس بقتال للرجال فقد نفيت مبالغته ،في قتلهم ،ولم يستلزم ذلك أنه لم يحصل منه قتل لبعضهم ولكنه لم يبالغ في القتل ،وعلى هذه القاعدة العربية المعروفة ،فإن الآية قد صرحت بأن الله لا يحب المبالغين في الكفر والمبالغين في الخيانة ،ولم تتعرض لمن يتصف بمطلق الخيانة ومطلق الكفر من غير مبالغة فيهما ،ولا شك أن الله يبغض الخائن مطلقاً ،والكافر مطلقاً ،وقد أوضح جل وعلا ذلك في بعض المواضع ،فقال في الخائن:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [ الأنفال: 58] وقال في الكافر:{قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [ آل عمران: 32] .