{وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} .
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث صفات من صفات نساء أهل الجنّة .
الأولى: أنهن{قَاصِراتُ الطَّرْفِ} ،وهو العين ،أي: عيونهن قاصرات على أزواجهن ،لا ينظرن إلى غيرهم لشدة اقتناعهن واكتفائهن بهم .
الثانية: أنهن{عِينٌ} ،والعين جمع عيناء ،وهي واسعة دار العين ،وهي النجلاء .
الثالثة: أن ألوانهن بيض بياضًا مشربًا بصفرة ؛لأن ذلك هو لون بيض النعام الذي شبّههن به ،ومنه قول امرئ القيس في نحو ذلك:
كبكر المقانات البياض بصفرة*** غذاها غير الماء نمير المحلّل
لأن معنى قوله: كبكر المقانات البياض بصفرة: أن لون المرأة المذكورة كلون البيضة البكر المخالط بياضها بصفرة ،وهذه الصفات الثلاث المذكورة هنا ،جاءت موضحة في غير هذا الموضع مع غيرها من صفاتهن الجميلة ،فبيَّن كونهن قاصرات الطرف على أزواجهن ،بقوله تعالى في «ص »:{وَعِندَهُمْ قَاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ ص: 52] ،وكون المرأة قاصرة الطرف من صفاتها الجميلة ،وذلك معروف في كلام العرب ،ومنه قول امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دبّ محمول *** من الذرّ فوق الأتب منها لأثرا
وذكر كونهن عينًا في قوله تعالى فيهن:{وَحُورٌ عِينٌ} [ الواقعة: 23] ،وذكر صفا ألوانهنّ وبياضها في قوله تعالى:{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [ الواقعة: 23] ،وقوله تعالى:{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [ الرحمن: 58] ،وصفاتهن كثيرة معروفة في الآيات القرآنية .
واعلم أن اللَّه أثنى عليهن بنوعين من أنواع القصر:
أحدهما: أنهن{قَاصِراتُ الطَّرْفِ} ،والطرف العين ،وهو لا يجمع ولا يثنّى لأن أصله مصدر ،ولم يأتِ في القرآن إلا مفردًا كقوله تعالى:{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [ إبراهيم: 43] ،وقوله تعالى:{يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ} ،ومعنى كونهن{قَاصِراتُ الطَّرْفِ} هو ما قدّمنا من أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن بخلاف نساء الدنيا .
والثاني من نوعي القصر: كونهن مقصورات في خيامهن ،لا يخرجن منها ؛كما قال تعالى لأَزواج نبيّه صلى الله عليه وسلم:{وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ} [ الأحزاب: 33] ،وذلك في قوله تعالى:{حُورٌ مَّقْصُوراتٌ في الْخِيَامِ} [ الرحمن: 72] ،وكون المرأة مقصورة في بيتها لا تخرج منه من صفاتها الجميلة ،وذلك معروف في كلام العرب ؛ومنه قوله:
من كان حربًا للنسا***ء فإنني سلم لهنه
فإذا عثرن دعونني ***وإذا عثرت دعوتهنه
وإذا برزن لمحفل*** فقصارهن ملاحهنه
فقوله:
قصارهن ،يعني: المقصورات منهن في بيوتهن اللاتي لا يخرجن إلا نادرًا ،كما أوضح ذلك كثير عزّة في قوله:
وأنت التي حببت كل قصيره ***إلى وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ***قصار الخطا شر النساء البحاتر
والحجال: جمع حجلة ،وهي البيت الذي يزين للعروس ،فمعنى قصيرات الحجال: المقصورات في حجالهن .وذكر بعضهم أن رجلاً سمع آخر ،قال: لقد أجاد الأعشى في قوله:
غراء فرعاء مصقول عوارضها ***تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها ***مرّ السحابة لا ريث ولا عجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها ***ولا تراها لسر الجار تختتل
فقال له: قاتلك اللَّه ،تستحسن غير الحسن هذه الموصوفة خراجة ولاجة ،والخراجة الولاجة لا خير فيها ولا ملاحة لها ،فهل لا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت:
وتكسل عن جاراتها قيزنها*** وتعتل من إنيانهن فتعذر