قوله تعالى:{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ}: كم هنا هي الخبرية ،ومعناها الإخبار عن عدد كثير ،وهي في محل نصب ،على أنها مفعول به لأهلكنا وصيغة الجمع في أهلكنا للتعظيم ،ومن في قوله: من قرن ،مميزة لكم ،والقرن يطلق على الأمة وعلى بعض من الزمن ،أشهر الأقوال فيه أنه مائة سنة ،والمعنى أهلكنا كثيراً من الأمم السالفة من أجل الكفر ،وتكذيب الرسل فعليكم أن تحذروا يا كفار مكة من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والكفر بما جاء به لئلا نهلككم بسبب ذلك كما أهلكنا به القرون الكثيرة الماضية .
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل:
الأولى: أنه أهلك كثيراً من القرون الماضية ،يهدد كفار مكة بذلك .الثانية: أنهم نادوا أي عند معاينة أوائل الهلاك .الثالثة: أن ذلك الوقت الذي هو وقت معاينة العذاب ليس وقت نداء ،أي فهو وقت لا ملجأ فيه ،ولا مفر من الهلاك بعد معاينته .
وقد ذكر جل وعلا هذه المسائل الثلاث المذكورة هنا موضحة في آيات كثيرة من كتابه:
أما المسألة الأولى وهي كونه أهلك كثيراً من الأمم ،فقد ذكرها في آيات كثيرة ،كقوله تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ} [ الإسراء: 17] وقوله تعالى:{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ} [ الحج: 45] .وقوله تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} [ إبراهيم: 9] .والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقد ذكر جل وعلا في آيات كثيرة أن سبب إهلاك تلك الأمم الكفر بالله وتكذيب رسله كقوله في هذه الآية الأخيرة مبيناً سبب إهلاك تلك الأمم التي صرح بأنها ( لا يعلمها إلا الله ){جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [ إبراهيم: 9] .
وقد قدمنا في الكلام على هذه الآية من سورة إبراهيم ،أقوال أهل العلم في قوله تعالى:{فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} وبينا دلالة القرآن على بعضها ،وكقوله تعالى{وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْرا ًفَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [ الطلاق: 8 -9] وقوله تعالى:{وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً} إلى قوله:{وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلك كَثِيراً وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} [ الفرقان: 37 – 38 – 39] وقوله تعالى:{إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ ص: 14] .وقوله تعالى{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ ق: 14] الآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقد بين تعالى أن المراد بذكر إهلاك الأمم الماضية بسبب الكفر وتكذيب الرسل تهديد كفار مكة ،وتخويفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك إن تمادوا على الكفر وتكذيبه صلى الله عليه وسلم .
ذكر تعالى ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [ محمد صلى الله عليه وسلم: 10] لأن قوله تعالى:{وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} تهديد عظيم بذلك .
وقوله تعالى:{جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هي مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [ هود: 82 – 83] فقوله: وما هي من الظالمين ببعيد فيه تهديد عظيم لمن يعمل عمل قوم لوط من الكفر وتكذيب نبيهم ،وفواحشهم المعروفة ،وقد وبخ تعالى من لم يعتبر بهم ،ولم يحذر أن ينزل به مثل ما نزل بهم ،كقوله في قوم لوط:{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِين وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [ الصافات: 137-138] وقوله تعالى:{وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} [ الفرقان: 40] .وقوله فيهم:{وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [ العنكبوت: 35] .وقوله فيهم:{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} [ الحجر: 76] .وقوله فيهم وفي قوم شعيب{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} [ الحجر: 79] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وأما المسألة الثانية: وهي نداؤهم إذا أحسوا بأوائل العذاب فقد ذكر تعالى في آيات من كتابه نوعين من أنواع ذلك النداء .
أحدهما: نداؤهم باعترافهم أنهم كانوا ظالمين ،وذلك في قوله تعالى:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} إلى قوله{قَالُواْ يا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [ الأنبياءك 11- 15] وقوله تعالى:{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلاَ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [ الأعراف: 4 – 5] .
الثاني: من نوعي النداء المذكور نداؤهم بالإيمان بالله مستغيثين من ذلك العذاب الذي أحسوا أوائله ،كقوله تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ التي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [ غافر: 84 -85] وهذا النوع الأخير هو الأنسب والأليق بالمقام ،لدلالة قوله:{وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} عليه .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} الذي هو المسألة الثالثة ،معناه: ليس الحين الذي نادوا فيه ،وهو وقت معاينة العذاب ،حين مناص ،أي ليس حين فرار ولا ملجأ من ذلك العذاب الذي عاينوه .
فقوله: ولات هي لا النافية زيدت بعدها تاء التأنيث اللفظية كما زيدت في ثم ،فقيل فيها ثمت ،وفي رب ،فقيل فيها ربت .
وأشهر أقوال النحويين فيها ،أنها تعمل عمل ليس وأنها لا تعمل إلا في الحين خاصة ،أو في لفظ الحين ونحوه من الأزمنة ،كالساعة والأوان ،وأنها لابد أن يحذف اسمها أو خبرها والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب ،وربما عكس ،وهذا قول سيبويه وأشار إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله:
في النكرات أعملت كليس «لا » *** وقد تلى «لات » و«إن » ذا العملا
وما للات في سوى حين عمل *** وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل
والمناص مفعل من النوص ،والعرب تقول: ناصه ينوصه إذا فاته وعجز عن إدراكه ،ويطلق المناص على التأخر لأن من تأخر ومال إلى ملجأ ينقذه مما كان يخافه فقد وجد المناص .
والمناص والملجأ والمفر والموئل معناها واحد ،والعرب تقول: استناص إذا طلب المناص ،أي السلامة والمفر مما يخافه ،ومنه قول حارثة بن بدر:
غمر الجراء إذا قصرت عنانه *** بيدي استناص ورام جري المسحل
والأظهر أن إطلاق النوص على الفوت والتقدم ،وإطلاقه على التأخر والروغان كلاهما راجع إلى شيء واحد .لأن المناص مصدر ميمي معناه المنطبق على جزئياته ،أن يكون صاحبه في كرب وضيق ،فيعمل عملاً ،يكون به خلاصه ونجاته من ذلك .
فتارة يكون ذلك العمل بالجري والإسراع أمام من يريده بالسوء ،وتارة يكون بالتأخر والروغان حتى ينجو من ذلك .
والعرب تطلق النوص على التأخر .والبوص بالباء الموحدة التحتية على التقدم ،ومنه قول امرئ القيس:
أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص *** فتقصر عنها خطوة وتبوص
وأصوب الأقوال في لات أن التاء منفصلة عن حين وأنها تعمل عمل ليس خلافاً لمن قال: إنها تعمل عمل إن ،ولمن قال: إن التاء متصلة بحين وأنه رآها في الإمام ،وهو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه متصلة بها .
وعلى قول الجمهور منهم القراء السبعة ،أن التاء ليست موصولة بحين ،فالوقف على لات بالتاء عند جميعهم ،إلا الكسائي فإنه يقف عليها بالهاء .
أما قراءة كسر التاء وضمها فكلتاهما شاذة لا تجوز القراءة بها ،وكذلك قراءة كسر النون من حين ،فهي شاذة لا تجوز ،مع أن تخريج المعنى عليها مشكل .
وتعسف له الزمخشري وجهاً لا يخفى سقوطه ،ورده عليه أبو حيان في البحر المحيط ،واختار أبو حيان أن تخريج قراءة الكسر أن حين مجرورة بمن محذوفة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{فَنَادَواْ} أصل النداء: رفع الصوت ،والعرب تقول: فلان أندى صوتاً من فلان ،أي أرفع ،ومنه قوله:
فقلت ادعى وأدعو إن أندا *** لصوت أن ينادي داعيان
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الأمم الماضية المهلكة ينادون عند معاينة العذاب ،وأن ذلك الوقت ليس وقت نداء إذ لا ملجأ فيه ولا مفر ولا مناص .ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِين َفَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [ غافر: 84 -85] الآية .وقوله تعالى:{فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ يا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين َفَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [ الأنبياء: 12 -15] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد بين تعالى وقوع مثل ذلك في يوم القيامة في آيات من كتابه كقوله تعالى:{اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يأتي يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} [ الشورى: 47] .وقوله تعالى:{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ} [ القيامة: 7 -11] والوزر: الملجأ ،ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
والناس إلب علينا فيك ليس لنا *** إلا الرماح وأطراف القنا وزر
وكقوله تعالى:{بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} [ الكهف: 58] والموئل اسم مكان من وأل يئل إذا وجد ملجأ يعتصم به ،ومنه قول الأعشى ميمون بنقيس:
وقد أخالس رب البيت غفلته *** وقد يحاذر مني ثم مائِيل
أي ثم ما ينجو .