قوله تعالى:{هُوَ الذي يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ،أنه جل وعلا هو الذي يُري خلقه آياته ،أي الكونية القدرية ليجعلها علامات لهم على ربوبيته ،واستحقاقه العبادة وحده ومن تلك الآيات الليل والنهار والشمس والقمر كما قال تعالى:{وَمِنْ ءَايَاتِهِ الليل وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [ فصلت: 37] الآية .
ومنها السماوات والأرضون ،وما فيهما والنجوم ،والرياح والسحاب ،والبحار والأنهار ،والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا ،كما قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله{لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [ البقرة: 164] .وقال تعالى:{إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ الليل وَالنَّهَارِ لآيات لأولي الألباب} [ آل عمران: 190] .وقال تعالى:{إِنَّ في السَّمَاوَاتِ والأرض لآيات لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ الليل وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ءّايَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [ الجاثية: 3-5] وقال تعالى{إِنَّ في اخْتِلَافِ الليل وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ في السَّمَاوَاتِ والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [ يونس: 6] .
وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن هذه ،من أنه هو الذي يُرِي خلقه آياته ،بينه وزاده إيضاحاً في غير هذا الموضع ،فبين أنه يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ،وأن مراده بذلك البيان أن يتبين لهم أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق ،كما قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا في الأفاق وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [ فصلت: 53] .
والآفاق جمع أفق وهو الناحية ،والله جل وعلا قد بين من غرائب صنعه ،وعجائبه ،في نواحي سماواته وأرضه ،ما يتبين به لكل عاقل أنه هو الرب المعبود وحده .كما أشرنا إليه ،من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والجبال ،والدواب والبحار ،إلى غير ذلك .
وبين أيضاً أن من آياته التي يريهم ولا يمكنهم أن ينكروا شيئاً منها تسخيره لهم الأنعام ليركبوها ويأكلوا من لحومها ،وينتفعوا بألبانها ،وزبدها وسمنها ،وأقطها ويلبسوا من جلودها ،وأصوافها وأوبارها وأشعارها ،كما قال تعالى:{اللَّهُ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فأي ءَايَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} [ غافر: 79-81] .
وبين في بعض المواضع ،أن من آياته التي يريها بعض خلقه ،معجزات رسله ،لأن المعجزات آيات ،أي دلالات ،وعلامات على صدق الرسل ،كما قال تعالى في فرعون{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [ طه: 56] وبين في موضع آخر ،أن من آياته التي يريها خلقه ،عقوبته المكذبين رسله ،كما قال تعالى في قصة إهلاكه قوم لوط{وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [ العنكبوت: 35] .
وقال في عقوبته فرعون وقومه بالطوفان والجراد والقمل إلخ:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ} [ الأعراف: 133] الآية .
قوله تعالى:{وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً} .
أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة ،الرزق وأراد المطر ،لأن المطر سبب الرزق ،وإطلاق المسبب وإرادة سببه لشدة الملابسة بينهما ،أسلوب عربي معروف ،وكذلك عكسه الذي هو إطلاق السبب وإرادة المسبب كقوله:
أكنت دماً إن لم أرعْكِ بضرَّة *** بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
فأطلق الدم وأراد الدية ،لأنه سببها .
وقد أوضحنا في رسالتنا المسماة: منع جواز المجاز ،في المنزل للتعبد والإعجاز ،أن أمثال هذا أساليب عربية ،نطقت بها العرب في لغتها ،ونزل بها القرآن ،وأن ما يقوله علماء البلاغة من أن في الآية ما يسمونه المجاز المرسل الذي يعدون من علاقاته السببية والمسببية ،لا داعي إليه ،ولا دليل عليه ،يجب الرجوع إليه .
وإطلاق الرزق في آية المؤمن هذه على المطر جاء مثله ،في غير هذا الموضع كقوله تعالى في أول سورة الجاثية{وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [ الجاثية: 5] فأوضح بقوله{فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أن مراده بالرزق المطر ،لأن المطر هو الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها .
وقد أوضح جل وعلا ،أنه إنما سمي المطر رزقاً ،لأن المطر سبب الرزق ،في آيات كثيرة من كتابه ،كقوله تعالى في سورة البقرة{وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ} [ البقرة: 22] الآية ،والباء في قوله فأخرج به سببية كما ترى .
وكقوله تعالى في سورة إبراهيم:{اللَّهُ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} [ إبراهيم: 32] الآية .وقوله تعالى في سورة ق:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ} [ ق: 9-10] .
وبين في آيات أخر أن الرزق المذكور ،شامل لما يأكله الناس ،وما تأكله الأنعام ،لأن ما تأكله الأنعام ،يحصل بسببه للناس الانتفاع بلحومها ،وجلودها وألبانها ،وأصوافها وأوبارها ،وأشعارها ،كما تقدم كقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأرض الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [ السجدة: 27] وقوله تعالى{هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [ النحل: 10- 11] الآية .
فقوله: فيه تسيمون ،أي تتركون أنعامكم سائمة فيه تأكل منه من غير أن تتكلفوا لها مؤونة العلف كما تقدم إيضاحه بشواهده العربية ،في سورة النحل وكقوله تعالى{وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [ طه: 53- 54] الآية .وقوله تعالى:{أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم} [ النازعات: 31-33] إلى غير ذلك من الآيات .قوله تعالى:{وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ،أن الناس ما يتذكر منهم ،أي ما يتعظ بهذه الآيات المشار إليها في قوله:{هُوَ الذي يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} أي من رزقه الله الإنابة إليه .
والإنابة: الرجوع عن الكفر والمعاصي ،إلى الإيمان والطاعة .
وهؤلاء المنيبون ،المتذكرون ،المتعظون ،هم أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال ،المذكورون في قوله تعالى في أول سورة آل عمران{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [ آل عمران: 7] وفي قوله تعالى في سورة إبراهيم{وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلٌَه وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [ إبراهيم: 52] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد دلت آية المؤمن هذه ،وما في معناها من الآيات ،على أن غير أولي الألباب المتذكرين المذكورين آنفاً ،لا يتذكر ولا يتعظ بالآيات ،بل يعرض عنها أشد الإعراض .
وقد جاء هذا المعنى موضحاً ،في آيات كثيرة من كتاب الله ،كقوله تعالى:{وَكَأَيِّن مِّن ءَايَةٍ في السَّمَاوَاتِ والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [ يوسف: 105] .وقوله تعالى:{وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} [ القمر: 2] وقوله{وَإِذَا رَأَوْاْ ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [ الصافات: 14] .وقوله تعالى:{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا في السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [ يونس: 101] وقوله{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [ الأنعام: 4] في الأنعام ويس إلى غير ذلك من الآيات .