التّفسير
ادع الله وحده رغماً على الكافرين:
هذه الآيات المتضمنة للنصيحة والتهديد والإنذار استدلال على المسائل المطروحة في الآيات السابقة ،فهي استدلال على التوحيد والرّبوبية ونفي الشرك وعبادة الأصنام .
تقول الآية أوّلا: ( هو الذي يريكم آياته ) .
فهي نفس الآيات والعلائم الآفاقية والأنفسية التي تملأ عالم الوجود ،وتستوعب بإشراقتها أركانه ،وتضع بصماتها وآثارها العجيبة على جدران الوجود وجميع أرجاءه .
ثم توضح واحدة من هذه الآيات: ( وينزل لكم من السماء رزقاً ) .
قطرات المطر تعطي الحياة ،ونور الشمس يحيي الكائنات ،والهواء سرّ الوجود والحياة؛حياة جميع الكائنات ،حيوانات نباتات ،أناس ...كلّها تنزل من السماء .وتشكّل هذه الأثافي الثلاث فيما بينها قوام الحياة ،حيث تتفرع الأشياء الأُخرى من أصولها .
بعض المفسّرين أطلق على السماء اسم «عالم الغيب » وعلى الأرض اسم «عالم الشهود » ونزول الرزق من السماء إلى الأرض هو بمعنى الظهور من عالم الغيب إلى عالم الشهود .
ولكن هذا التّفسير فضلا عن منافاته لظاهر الآية ،لم نعثر له على دليل وشاهد ،صحيح أنّ الوحي والآيات ،هما غذاء الروح ،ينزلان من سماء الغيب ،وأنّ المطر والشمس والنور التي تعتبر غذاء الجسد تنزل من السماء الظاهرية ،وهما متناسقان مع بعضهما .ولكن ينبغي أن لا نتصوّر أن عبارة ( آياته ) التي نحن بصددها تشير إلى مفهوم أوسع ،أو تشير بالخصوص إلى الآيات التشريعية ،لأنّ عبارة ( يريكم آياته ) وردت مراراً في القرآن الكريم ،وهي عادةً ما تطلق على الآيات الدالة على التوحيد في عالم الوجود .
مثلا ،في أواخر هذه السورة ( المؤمن ) وبعد ذكر النعم الإلهية ،من قبيل الزواحف والفلك تقول: ( ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون ){[3898]} .
إنّ تعبير «يريكم » ينسجم في العادة مع الآيات التكوينية ،بينما جرت العادة في الآيات التشريعية على استخدام تعابير مثل ( أوحى ) و ( يأتيكم ) .
من هنا يتبيّن أنّ اعتبار هذه الآيات بمعنى الآيات التشريعية ،وأنّها أعم من التشريعية والتكوينية ،كما يذهب بعض كبار المفسّرين القدماء والمحدثين إلى ذلك ،لا يستند إلى دليل ،ولا تقوم عليه حجّة .
ولكن من الضروري أن نلتفت إلى أنّ القرآن يختار الإشارة إلى آية الرزق من بين آيات الله المبثوثة في السماء والأرض وفي وجود الإنسان ،ذلك لأنّ الرزق هو أكثر ما يشغل البال والفكر ،وأحيانا نرى الإنسان يستنجد بالأصنام من أجل زيادة الرزق ،وإنقاذه من وضعه المتردي ،لذا يأتي القرآن ليؤّكد أن جميع الأرزاق هي بيد الله ولا تستطيع الأصنام أو غيرها أن تفعل أي شيء .
وأخيراً تضيف الآية الكريمة: برغم جميع هذه الآيات البينات التي تسود هذا العالم الواسع ،وتغمر &&&تغمد&&& الوجود بضيائها ،إلاّ أنّ العيون العمياء والقلوب المحجوبة لا تكاد ترى شيئاً ،وإنّما يتذكرفقطمن ينيب إلى خالقه ويغسل قلبه وروحه من الذنوب: ( وما يتذكر إلاّ من ينيب ) .