قوله تعالى:{فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأولين} .
الضمير في قوله منهم عائد إلى القوم المسرفين ،المخاطبين بقوله:{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} [ الزخرف: 5] ،وفيه ما يسميه علماء البلاغة بالالتفات من الخطاب إلى الغيبة .
وقوله{أَشَدَّ مِنْهُم} مفعول به لأهلكنا ،وأصله نعت لمحذوف ،والتقدير: فأهلكنا قوماً أشد منهم بطشاً ،على حد قوله في الخلاصة:
وما من المنعوت والنعت عُقِل *** يجوز حذفه وفي النعت يَقِل
وقوله بطشاً: تمييز محول من الفاعل على حد قوله في الخلاصة:
والفاعل المعنى انصبن بأفعَلا *** مفضِّلاً كأنت أعلا منزِلاَ
والبطش: أصله الأخذ بعنف وشدة .
والمعنى: فأهلكنا قوماً أشد بطشاً من كفار مكة الذين كذبوا نبينا بسبب تكذيبهم رسلهم فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشاً ،أي أكثر منهم عَدداً وعُدداً وجلداً .
فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بإهلاك الأقوى الأكثر .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{وَمَضَى مَثَلُ الأولين} أي صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل ،بسبب تكذيبهم الرسل .
وقوله من قال:{مَثَلُ الأولين} أي عقوبتهم وسنتهم راجع في المعنى إلى ذلك .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ،بأن الله أهلك من هم أقوى منهم ،ليحذروا أن يفعل بهم مثل ما فعل بأولئك ،جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَسيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [ الروم: 9] الآية .وقوله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَاراً في الأرض} [ غافر: 82] .وقوله تعالى:{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ في الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً} إلى قوله{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [ الأنعام: 6] الآية .وقوله تعالى:{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رسلي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [ سبأ: 45] .وقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شيء في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [ فاطر: 44] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{وَمَضَى مَثَلُ الأولين} ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد كفار مكة الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ،بصفته إهلاكهم وسنته فيهم التي هي العقوبة وعذاب الاستئصال ،جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى:{فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً في الأرض وَمَكْرَ السيئ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأولين فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [ فاطر: 42 -43] وقوله تعالى:{فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ التي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [ غافر: 83 -85] وقوله تعالى:{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} [ الكهف: 55] الآية .وقوله تعالى:{فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخرين} [ الزخرف: 55 – 56] .
وقد قدمنا بعض الآيات الدالة على هذا في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إسرائيل} [ المائدة: 32] الآية .