قوله تعالى:{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} .
يقول تعالى للمشركين: من هذا الذي غيره سبحانه يرزقكم ،إن أمسك الله عنكم رزقه .
والجواب .لا أحد يقدر على ذلك ولا يملكه إلا الله .
وقد صرح تعالى بهذا السؤال وجوابه في قوله تعالى:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [ سبأ: 24] .
أي لا أحد سواه سبحانه لا إله إلا هو ،قال تعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [ فاطر: 3] .
وذلك لأن الذي يقدر على الخلق ،هو الذي يملك القدرة على الرزق ،كما قال تعالى:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصار وَمَن يُخْرِجُ الْحَي مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي وَمَن يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [ يونس: 31] .
وكقوله:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [ الروم: 40] .
وهذا من كمال القدرة على الإحياء والإماتة والرزق ،وقد بين تعالى أن ذلك لمن بيده مقاليد الأمور سبحانه ،وتدبير شؤون الخلق كما في قوله تعالى:{لَهُ مَقَلِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ثم قال:{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ} [ الشورى: 12] ،أي يبسط ويقدر ،يعلم لا عن نقص ولا حاجة ،ولكن يعلم بمصالح عباده ،{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [ الشورى: 19] أي يعاملهم بلطفه وهو قوي على أن يرزق الجميع رزقاً واسعاً ،وهو العزيز في ملكه ،فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ،كما قال تعالى:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} [ الرعد: 26] أي بمقتضى اللطف والعلم{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [ هود: 6] .
ومن هذا كله يرد على أولئك الذين يطلبون عند غيره الرزق ،كما في قوله:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [ النحل: 73] .
وقد جمع الأمرين توبيخهم وتوجيههم في قوله تعالى:{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [ العنكبوت: 17] .
وقد بين تعالى قضية الخلق والرزق والعبادة كلها في قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [ الذاريات: 57 -58] .
وقد بين تعالى في الآيات المتقدمة أنه يرزق العباد من السماوات والأرض جملة .
وبين في آيات أخرى كيفية هذا الرزق تفصيلاً مما يعجز الخلق عن فعله ،وذلك في قوله تعالى:{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم} [ عبس: 24 -32] .
فجميع أنواع الرزق في ذلك ابتداء من إنزال الماء من السماء ،ثم ينشأ عنه إشقاق الأرض عن النبات بأنواعه ،حباً وعنباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق وفاكهة ،وكلها للإنسان ،وقضبا وأباً للأنعام ،والأنعام أرزاق أيضاً لحماً ولبناً ،وجميع ذلك قوامه إنزال الماء من السماء ،ولا يقدر على شيء من ذلك كله إلا الله .
فإذا أمسكه الله عن الخلق لا يقوى مخلوق على إنزاله ،فإذا علم المسلم أن الأرزاق بيد الخلاق ،ومن بيده مقاليد السماوات والأرض ،لن يتجه برغبة ولا يتوجه بسؤال إلا إلى الله تعالى ،موقناً حق اليقين أنه هو سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين .
وكما قال تعالى:{وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [ الذاريات: 22 -23] .
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قولها:"والله لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أعظم مما بيده".