انتقال من غرض إلى غرض في أفانين إبطال الشرك وإثبات توحد الله تعالى بالإلهية .وهذه الجملة تتنزل منزلة الاستدلال لقوله:{ مولاهم الحق}[ يونس: 30] لأنها برهان على أنه المستحق للولاية .
فاحتج على ذلك بمواهب الرزق الذي به قوام الحياة ،وبموهبة الحواس ،وبنظام التناسل والتوالد الذي به بقاء الأنواع ،وبتدبير نظام العالم وتقدير المقدرات ،فهذه كلها مواهب من الله وهم كانوا يعلمون أن جميع ما ذكر لا يفعله إلا الله إذ لم يكونوا ينسبون إلى أصنامهم هذه الأمور ،فلا جرم أن كان المختص بها هو مستحق الولاية والإلهية .
والاستفهام تقريري .وجاء الاستدلال بطريقة الاستفهام والجوابِ لأن ذلك في صورة الحوار ،فيكون الدليل الحاصل به أوقع في نفوس السامعين ،ولذلك كان من طرق التعليم مما يراد رسوخه من القواعد العلمية أن يؤتى به في صورة السؤال والجواب .
وقوله:{ من السماء والأرض} تذكير بأحوال الرزق ؛ليكون أقوى حضوراً في الذهن ،فالرزق من السماء المطر ،والرزق من الأرض النبات كله من حب وثمر وكلأ .
و ( أم ) في قوله:{ أم من يملك السمع} للإضراب الانتقالي من استفهام إلى آخر .
ومعنى:{ يملك السمع والأبصار} يملك التصرف فيهما ،وهو مِلك إيجاد تينك الحاستين وذلك استدلال وتذكير بأنفع صنع وأدقه .
وأفرد{ السمع} لأنه مصدر فهو دال على الجنس الموجود في جميع حواس الناس .
وأما{ الأبصار} فجيء به جمعاً لأنه اسم ،فهو ليس نصاً في إفادة العموم لاحتمال توهم بصر مخصوص فكان الجمع أدل على قصد العموم وأنفى لاحتمال العهد ونحوه بخلاف قوله:{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}[ الإسراء: 36] لأن المراد الواحد لكل مخاطب بقوله:{ ولا تقفُ ما ليس لك به علم}[ الإسراء: 36] .وقد تقدم عند قوله تعالى:{ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} في سورة[ الأنعام: 46] .
وإخراجُ الحي من الميت: هو تولد أطفال الحيوان من النطف ومن البَيْض ؛فالنطفة أو البيضة تكون لا حياة فيها ثم تتطور إلى الشكل القابل للحياة ثم تكون فيها الحياة .و ( مِن ) في قوله: مِن الميت} للابتداء .وإخراج الميت من الحي إخراج النطفةِ والبيضِ من الحيوان .
والتعريف في{ الحي} و{ الميت} في المرتين تعريف الجنس .
وقد نظم هذا الاستدلال على ذلك الصنع العجيب بأسلوب الأحاجي والألغاز وجعل بمحسن التضاد ،كل ذلك لزيادة التعجيب منه .وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله:{ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي} في سورة[ آل عمران: 27] .غير أن ما هنا ليس فيه رمز إلى شيء .
وقوله:{ ومن يدبر الأمر} تقدم القول في نظيره في أوائل هذه السورة .وهو هنا تعميم بعد تخصيص ذكر ما فيه مزيد عبرة في أنفسهم كالعِبرة في قوله:{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون}[ الذاريات: 21 ،22] .
والفاء في قوله:{ فسيقولون الله} فاء السببية التي من شأنها أن تقترن بجواب الشرط إذا كان غير صالح لمباشرة أداة الشرط ،وذلك أنه قصد تسبب قولهم:{ اللّهُ} على السؤال المأمور به النبيءُ عليه الصلاة والسلام ،فنزل فعل{ قل} منزلة الشرط فكأنه قيل: إن تَقل من يرزقكم من السماء والأرض فسيقولون الله ،ومنه قوله تعالى:{ قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا}[ الإسراء: 51 ،52] .وهذا الاستعمال نظير تنزيل الأمر من القول منزلة الشرط في جزم الفعل المقول بتنزيله منزلة جواب الشرط كقوله تعالى:{ قل لعباديَ الذين آمنوا يقيمُوا الصلاة}[ إبراهيم: 31] وقوله:{ وقل لعبادِي يقولوا التي هي أحسن}[ الإسراء: 53] .التقدير: إن تقل لهم أقيموا الصلاة يقيموا وإن تقل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا .وهو كثير في القرآن على رأي المحققين من النحاة وعادة المعربين أن يُخَرّجوه على حذف شرط مقدر دل عليه الكلام .والرأيان متقاربان إلا أن ما سلكه المحققون تقدير معنى والتقدير عندهم اعتبار لا استعمال ،وما سلكه المعربون تقدير إعراب والمقدر عندهم كالمذكور .
ولو لم ينزل الأمر بمنزلة الشرط لما جَاءت الفاء كما في قوله تعالى:{ قل لِمَن الأرضُ ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله}[ المؤمنون: 84 ،85] الآيات .
والفاء في قوله:{ فقل} فاء الفصيحة ،أي إن قالوا ذلك فقل أفلا تتقون .والفاء في قوله:{ أفلا تتقون} فاء التفريع ،أي يتفرع على اعترافكم بأنه الفاعل الواحد إنكار عدم التقوى عليكم .ومفعول{ تتقون} محذوف ،تقديره تتقونه ،أي بتنزيهه عن الشريك .
وإنما أخبر الله عنهم بأنهم سيعترفون بأن الرازق والخالق والمدبر هو الله لأنهم لم يكونوا يعتقدون غير ذلك كما تكرر الإخبار بذلك عنهم في آيات كثيرة من القرآن .وفيه تحدّ لهم فإنهم لو استطاعوا لأنكروا أن يكون ما نسب إليهم صحيحاً ،ولكن خوفهم عار الكذب صرفهم عن ذلك فلذلك قامتْ عليهم الحجة بقوله:{ فقل أفلا تتقون} .