{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ ومَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ 31 فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ 32 كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ 33}
هذا نوع آخر من أسلوب إقامة الحجج على المشركين في إثبات التوحيد والبعث ، وهو أسلوب السؤال والجواب ، ويليه إثبات النبوة والرسالة والقرآن .
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ} أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين من أهل مكة:من يرزقكم من السماء بما ينزله من المطر ، ومن الأرض بما ينبته فيها من أنواع النبات نجمه وشجره مما تأكلون وتأكل أنعامكم ؟
{ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ} بل قل لهم أيضا:من يملك ما تتمتعون به أنتم وغيركم من حواس السمع والأبصار التي لولاها لم تكونوا تعلمون من أمر العالم شيئا ، بل تكون الأنعام والحشرات وكذا الشجر خيرا منكم باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها ، من يملك خلق الحواس وهبتها للناس ، وحفظها من الآفات ؟ وخص هاتين الحاستين بالذكر ؛ لأن عليهما مدار الحياة الحيوانية وكمال البشرية ، وتحصيل العلوم الأولية ، يشعر بذلك المسئولون بمجرد إلقاء السؤال ، وكلما ازدادوا فيه تفكرا ازدادوا علما وإعجابا وإكبارا لإنعام الله تعالى بهما ، وإيمانا بأنه لا يقدر غيره عليهما ، ولاسيما إدراك الكلام بحاسة السمع ، وما يرسمه صوت المتكلم في الهواء من معلوماته التي يدلي بها إلى غيره ، فتتكيف بها كل ذرة من ذراته ( أي الهواء ) ، فتقرع به طبلة كل أذن من آذان السامعين وإن كثروا ، فينقلها العصب المتصل بها إلى مركز إدراك الكلام من دماغه ، فيدرك معناها المدلول عليه بها بأقوى مما يدركه من قرأها مخطوطة في كتاب ، لما لجرس الصوت من التأثير الخاص ، فمن ذا الذي خلق هذه الآلات ؟ ومن ذا الذي ألهمها إيداع هذه المعاني في الأصوات ؟ ومن ذا الذي وضع هذا النظام في الهواء ؟
ثم إذا ازداد علما بإدراك البصر للمبصرات ، وما لها من المقادير والألوان والصفات ، وما للعين الباصرة من الشكل المحدب ، وما لها من الطبقات والرطوبات ، الموافقة لسنن الله في النور تدرك به المرئيات ، مما هو مبسوط في الأسفار وموجز في المختصرات ، ازداد يقينا بأن ذلك من آيات الله الدالة على علمه وحكمته في الكائنات ، وإن غفل عنها المشغولون عن عظمة الصانع بعظمة المصنوعات ، وقد وحد السمع ؛ لأن إدراكه لجنس واحد هو الأصوات ، وجمع البصر لتعدد أجناس المبصرات .
{ ومَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ويُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} أي ومن ذا الذي يملك الحياة والموت في العالم كله فيخرج الأحياء والأموات بعضها من بعض فيما تعرفون من المخلوقات التي تحدث وتتجدد وفيما لا تعرفون ؟ فما كانوا يعرفون أن النبات يخرج من الأرض الميتة بعد إحياء الله إياها بماء المطر النازل عليها من السماء أو النابع منها بعد أن سلكه الله تعالى فيها كما قال:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوانُهُ} [ الزمر:21] الآية .بل كانت الحياة المعروفة عندهم قسمين:حياة النبات وآيتها النمو ، وحياة الحيوان وآيتها النمو والإحساس والحركة بالإرادة ، وكانوا يعدون وصف الأرض بالحياة مجازا ، ولم يكونوا يصفون أصول الأحياء بالحياة كالحب والنوى وبيض الحيوان ومنيه ، ولذلك فسر بعض المفسرين إخراج الحي من الميت والميت من الحي بخروج النخلة من النواة ، والطائر من البيضة ، وعكسهما وما يشابههما ، وهو تفسير صحيح عند أهل اللغة غير صحيح عند علماء الحياة النباتية والحيوانية .
وتحصل به الدلالة المقصودة من الآية على قدرة الله وحكمته وتدبيره ورحمته عند المخاطبين ، وليس المراد به وضع قواعد فنية للحياة وأنواعها وتحديد وظائفها ، على أنه يمكن تفسيرها بما يتفق وقاعد الفنون وتجارب العلوم التي تزداد عصرا بعد عصر ، فإذا كان أهلها يثبتون أن في أصول النبات من بزر ونوى وبيض ومني حياة ، فهم يثبتون أيضا أن أصول الأحياء في الأرض كلها خرجت من مادة ميتة ، فإن الأرض عندهم كانت كتلة نارية ملتهبة انفصلت من الشمس ، ثم صارت ماء ، ثم نبتت اليابسة في الماء ، ثم تكون من الماء النبات والحيوان في أطوار سبق الكلام فيها ، ويثبتون أيضا أن الغذاء من الطعام الميت الذي يحرق بالنار يتولد منه دم ، ومن هذا الدم يكون البيض والمني المشتملان على مادة الحياة ، ويثبتون أيضا أن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن وينفضه ، ويتجدد مواد حية جديدة تحل محل ما اندثر وخرج منه ، والمراد من الآية إثبات قدرة الخالق وتدبيره ونعمه على عباده ، وهو عام لا يتوقف على الفن ومحدثات العلم بل تزيده كمالا للمؤمن المعتبر ، وقد تكون حجابا لغيره تحجبه عن ربه ، فالقاعدة عند علماء الحياة أن الحي لا يخرج إلا من الحي ، فتعين أن تكون الحياة الأولى من خلق الله الحي بذاته المحيي لغيره .
وورد في التفسير المأثور تفسير الحياة والموت في مثل هذه الآية بالمعنويين منهما كخروج المؤمن من سلالة الكافر ، والعالم من الجاهل ، والبر من الفاجر ، وعكسها ، وقد قدمناه في تفسير آية آل عمران [ الآية:27] الوارد فيها لأنها المناسب لسياقها .وهناك رواه ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن البصري وسعيد بن منصور ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات وأبو الشيخ في العظمة عن سلمان رضي الله عنه وكذا ابن مردويه عنه وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، فراجعه في تفسيرها من الدر المنثور ، وسياق هذه الآيات هنا يناسب ما فسرناها به من الحياة والموت في العالم كله ، ويؤيده قوله تعالى:
{ ومَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ} في الخليقة كلها بما أودعه في كل منها من السنن وقدره من النظام ، وتقدم تفسير التدبير عند ذكره في أول هذه السورة .
{ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ} أي فسيكون جوابهم عن هذه الاستفهامات الخمس أن فاعل ذلك كله هو الله رب كل شيء ومليكه ، إذ لا جواب غيره ، وهم لا يجهلونه ، فالاستفهام عنه لحملهم على الإقرار به ، ليترتب عليه قوله{ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي فقل لهم أيها الرسول:أتعلمون هذا ، وتقرون به ، فلا تتقون سخط الله وعقابه لكم بشرككم به ، وعبادتكم لغيره ، ممن لا يملك لكم من تلك الأمور شيئا ، وهو المالك لها كلها ؟