{ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} هذه فذلكة ما تقدم ، أي فذلكم الذي يفعل ما ذكر الله ربكم ، أي المربي لكم بنعمه والمدبر لأموركم ، الحق الثابت بذاته ، لأنه هو الحي القيوم الحي بذاته ، المحيي لغيره ، القائم بنفسه ، المقيم لغيره ، وإذا كان هو ربكم الحق الذي لا ريب فيه ، المستحق للعبادة دون سواه{ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} الاستفهام إنكاري ، وفي الجملة إدماج بما يسمونه الاحتباك ، أي فماذا بعد الحق إلا الباطل ؟ وماذا بعد الهدى إلا الضلال ؟ والواسطة بين الطرفين المتضادين المتناقضين ممنوعة كالعقائد ، فالذي يفعل تلك الأمور هو الرب الحق ، فالقول بربوبية ما سواه باطل ، وهو الإله الذي يعبد بحق ، وعبادته وحده هي الهدى ، فما سواها من عبادة الشركاء والوسطاء ضلال ، فكل من يعبد غيره معه فهو مشرك مبطل ضال .
{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي فكيف تُصرفون وتتحولون عن الحق إلى الباطل ، وعن الهدى إلى الضلال ، بعد العلم والإقرار بما كان به الله هو الرب الحق ، وإنما الإله الحق ، الذي يعبد بالحق ، هو الرب الحق ، فما بالكم تقرون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية ، فتتخذون مع الله آلهة أخرى ولا تتحقق الألوهية إلا بتحقق الربوبية ؟
فالآية تقرر أن التوحيد لا يصح مع الفصل بين الربوبية والألوهية كما كانوا يفعلون ، وقد جهل هذا بعض علماء الأزهر في هذا الزمان ، الذين أخذوا عقيدتهم من بعض الكتب الكلامية المبتدعة وجهلوا عقائد القرآن ، فلم يفرقوا بين مفهومي الرب والإله في اللغة العربية ، وما كان عليه أهلها في الجاهلية ، على أن الإسلام إنما وحد بينهما في الماصدق الشرعي ، لا في المفهوم اللغوي ، واحتج بهذا على المشركين هنا وفي آيات كثيرة كما صرح به الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره من قبله ومن بعده .
وفي الآية من قواعد العقائد الدينية وأصول التشريع والعلم أن الحق والباطل فيهما ضدان لا يجتمعان ، وأن الهدى والضلال ضدان لا يجتمعان ، ولهذا الأصل فروع كثيرة في الدين والعلم العقلي ، وفيها من حسنات الإيجاز في التعبير ما يسميه علماء البديع بالاحتباك ، وهو أن يحذف من كل من المتقابلين ما يدل عليه مقابله في الآخر ، وهو ظاهر في الآية أتم الظهور ، وإن غفل عند الجمهور .