التّفسير
الحديث في هذه الآيات عن علامات ودلائل وجود الله سبحانه وأهليته للعبادة ،وتعقب أبحاث الآيات السابقة حول هذا الموضوع .
ففي البداية تقول: قل لهؤلاء المشركين وعبدة الأوثان الحائرين التائهين عن طريق الحق: من يرزقكم من السماء والأرض ؟( قل من يرزقكم من السماء والأرض ) .
«الرزق » يعني العطاء والبذل المستمر ،ولما كان الواهب لكل المواهب في الحقيقة هو الله سبحانه ،فإِنّ «الرازق » و «الرزّاق » بمعناهما الحقيقي لا يستعملان إلاّ فيه فقط ،وإِذا استعملت هذه الكلمة في حق غيره فلا شك أنّها من باب المجاز ،كالآية ( 233 ) من سورة البقرة التي تقول في شأن النساء المرضعات: ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) .
وينبغيأيضاًأن نذكّر بهذه النقطة ،وهي أنّ أكثر أرزاق الإنسان من السماء ،فالمطر المحيي للنبات من السماء ،الذي تحتاجه كل الكائنات الحية مستقر في فضاء الأرض ،والأهم من ذلك كله أشعة الشمس التي لا يبقي بدونها أي كائن حي ،ولا تنبعث بدونها أية حركة في أنحاء الكرة الأرضية فإنّها تأتي من السماء ،وحتى الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار فإنّها حية بنور الشمس ،لأنا نعلم أن غذاء الكثير منها أعشاب صغيرة جدّاً تنمو في طيات الأمواج على سطح المحيط مقابل أشعة الشمس ،والقسم الآخر من هذه الحيوانات تتغذي على لحوم الحيوانات البحرية الأُخرى التي تتغذى على تلك النباتات .
والأرض وحدها هي التي تغذي جذور النباتات بواسطة موادها الغذائية ،وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية أوّلا عن أرزاق السماء ،ثمّ عن أرزاق الأرض حسب تفاوت درجة الأهمية .
ثمّ تشير الآية إلى حاستين من أهم حواس الإنسان ،واللتان لا يمكن كسب العلم وتحصيله بدونهما ،فقالت: ( أمن يملك السمع والأبصار ) .وفي الواقع فإنّ هذه الآية أشارت إلى النعم المادية أوّلا ،ثمّ إلى المواهب والأرزاق المعنوية التي تصبح النعم المادية بدونها فاقدة للهدف والمحتوى .
إن كلمة ( سَمع ) مفردة ،وهي بمعنى الأذن ،و«الأبصار » وجمع بصر بمعنى العين ،وهنا يأتي هذا السؤال ،وهو: لماذا ذكرت كلمة السمع في كل القرآن بصيغة المفرد ،وأمّا البصر فإنّها جاءت تارة بصيغة المفرد ،وتارةً أخرى بصيغة الجمع جواب هذا السؤال مذكور في المجلد الأوّل من هذا التّفسير ذيل الآية ( 7 ) من سوره البقرة .
ثمّ تطرقت الآية إلى ظاهرتي الموت والحياة اللتين هما أعجب ظواهر عالم الخلقة ،فتقول: ( ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) وهذا هو نفس الموضوع الذي حيّر عقول علماء الطبيعية وعلماء الأحياء ،وهو كيف أتى الموجود الحي إِلى الوجود من موجود ميت ؟فهل إِنّ مثل هذه المسألةالتي لم تفلح جهود ومساعي العلماء الحثيثة إِلى الآن في كشف أسرارهاأمراً بسيطاً ومرتبطاً بالصدفة وبدون برنامج وهدف ؟لا شك أنّ من وراء ظاهرة الحياة المعقدة والظريفة والمليئة بالأسرار علم وقدرة خارقة وعقل كلي .
إِنّه لم يخلق الكائن الحي في البداية من الموجودات الأرضية الميتة وحسب ،بل إِنّه قرر عدم خلود الحياة ،ولهذا خلق الموت في قلب الحياة ليفسح المجال عن هذا الطريق لتغير الأحوال والتكامل .
ويحتملأيضاًفي تفسير هذه الآية أنّها تشمل الموت والحياة المعنويين إِضافة إِلى الموت والحياة الماديين ،لأنّنا نرى أناساً عقلاء طاهرين ورعين مؤمنين يولدون أحياناً من أبوين ملوثين منحرفين لا إِيمان لهما ،ويلاحظ أيضاً عكس ذلك حيث يأتي إِلى الوجود اِناس تافهون لا قيمة لهم من أبوين فاضلين{[1722]} .خلافاً لقانون الوراثة .
طبعاً ،لا يوجد مانع من أن تكون الآية أعلاه إِلى كلا القسمين ،لأنّ كليهما من عجائب الخلقة ومن الظواهر العجيبة في العالم ،وهما موضحان لهذه الحقيقة ،وهي أن لقدرة الخالق العالم الحكيم دخلا في هذه الأُمور إِضافةً إِلى الأُمور الطبيعية .
وقد أعطينا توضيحات أُخرى حول هذا الموضوع في المجلد الخامس ذيل الآية ( 95 ) من سورة الأنعام .
ثمّ تضيف الآية: ( ومن يدبر الأمر ) ،والكلام في الواقع بدأ عن خلق المواهب ،ثمّ عن حافظها وحارسها ومدبرها .وبعد أن يطرح القرآن الكريم هذه الأسئلة الثلاثة يقول مباشرة بأنّ هؤلاء سيجيبون بسرعة: ( فسيقولون الله ) .
يستفاد من هذه الجملة جيداً أنّه حتى مشركي وعبدة الأصنام في الجاهلة كانوا يعلمون أنّ الخالق والرازق والمحيي ومدبر أمور عالم الوجود هو الله سبحانه ،وقد علموا هذه الحقيقة عن طريق العقل ،وكذلك عن طريق الفطرة ،وهي أنّ هذا النظام الدقيق للعالم لا يمكن أن يكون وليد الصدفة والفوضى ،أو مخلوقاً من قبل هذه الأصنام .
وفي آخر الآية يأمر الله نبيّه ( فقل أفلا تتقون ) فإِنّ الوحيد الذي له أهلية العبادة هو الذي بيده الخلق وتدبير أمره ،وإِذا كانت العبادة لأجل أهلية وعظمة ذات المعبود ،فإنّ هذه الأهلية والعظمة منحصرة في الله تعالى ،وإذا كانت من أجل أنّه مصدر الضر والنفع ،فإنّ ذلك مختص بالله أيضاً .