جملة{ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون} مستأنفة فذلكة ونتيجة للجمل المتقدمة من قوله:{ أولئك يعرضون على ربهم}[ هود: 18] لأنّ ما جمع لهم من الزج للعقوبة ومن افتضاح أمرهم ومن إعراضهم عن استماع النذر وعن النظر في دلائل الوحدانية يوجب اليقين بأنهم الأخسرون في الآخرة .
و ( لا جرم ) كلمة جزْم ويقين جرت مجرى المثل ،وأحسب أن ( جرم ) مشتقّ مما تنوسي ،وقد اختلف أيمّة العربية في تركيبها ،وأظهر أقوالهم أن تكون ( لا ) من أول الجملة و ( جرم ) اسم بمعنى محالة أي لا محالة أو بمعنى بدّ أي لا بدّ .ثم يجيء بعدها أنّ واسمها وخبرها فتكون ( أنّ ) معمولة لحرف جرّ محذوف .والتقدير: لا جرم من أن الأمر كذا .ولما فيها من معنى التحقيق والتوثيق وتعامل معاملة القسم فيجيء بعدها في ما يصلح لجواب قسم نحو: لا جرم لأفعلن .قاله عمرو بن معد يكرب لأبي بكر .
وعبر عمّا لحقهم من الضر بالخسارة استعارة لأنه ضر أصابهم من حيث كانوا يرجون المنفعة فهم مثل التجار الذين أصابتهم الخسارة من حيث أرادوا الربح .
وإنما كانوا أخسرين ،أي شديدي الخسارة لأنهم قد اجتمع لهم من أسباب الشقاء والعذاب ما افترق بين الأمم الضالة .ولأنهم شقُوا من حيث كانوا يحسبونه سعادة قال تعالى:{ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}[ الكهف: 103 ،104] فكانوا أخسرين لأنهم اجتمعت لهم خسارة الدنيا والآخرة .
وضمير{ هم الأخسرون} ضمير فصل يفيد القصر ،وهو قصر ادّعائي ،لأنهم بلغوا الحد الأقصى في الخسارة ،فكأنّهم انفردوا بالأخسرية .