{ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}
وقوله:{ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} جاء على طريقة التجريد بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها .فاللام لتعدية فعل{ أحسنتم} ،يقال: أحسنت لفلان .
وكذلك قوله:{ وإن أسأتم فلها} .فقوله:{ فلها} متعلق بفعل محذوف بعد فاء الجواب ،تقديره: أسأتم لها .وليس المجرور بظرف مستقر خبراً عن مبتدأ محذوف يدل عليه فعل{ أسأتم} لأنه لو كان كذلك لقال فعَلَيها ،كقوله في سورة[ فصلت: 46]{ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها}
ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين أن آية فصلت ليس فيها تجريد ،إذ التقدير فيها: فعمله لنفسه وإساءته عليه ،فلما كان المقدر اسماً كان المجرور بعده مستقراً غير حرف تعدية ،فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبَر عنه نافعاً فيخبر عنه بمجرور باللام ،أو ضاراً يخبر عنه بمجرور ب ( إلى ) ،وأما آية الإسراء ففعل أحسنتم وأسأتم الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد فجاءا على أصل تعديتهما باللام لا لقصد نفع ولا ضر .
{ فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا}
تفريع على قوله:{ وإن أسأتم فلها}[ الإسراء: 7] ،إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعدُ المرة الآخرة .
قد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاءً لِحَقّ التقسيم الأول في قوله:{ فإذا جاء وعد أولاهما}[ الإسراء: 5] ،ولِحَقّ إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة ،ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع .
و{ الآخرة} صفة لمحذوف دل عليه قوله:{ مرتين} ،أي وعد المرة الآخرة .
وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء .
والآخرة ضد الأولى .
ولاماتُ « ليسوؤوا ،وليدخلوا ،وليتبروا » للتعليل ،وليست للأمر لاتفاق القراءات المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث ،ولو كانا لامَيْ أمرٍ لكانَا ساكنين بعد واو العطف ،فيتعين أن اللام الأول لام أمر{[266]} لا لام جر .والتقدير فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عباداً لنا ليسوؤا وجوهكم الخ .
وقرأ نافع ،وابن كثير ،وأبو عمرو ،وحفص ،وأبو جعفر ،ويعقوب{ ليسوؤا} بضمير الجمع مثل أخواته الأفعاللِ الأربعة .والضمائر راجعة إلى محذوف دلّ عليه لام التعليل في قوله:{ ليسوؤا} إذ هو متعلق بما دل عليه قوله في{ وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا}[ الإسراء: 5] ،فالتقدير: فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عباداً لنا ليسوؤوا وجوهكم .وليست عائدة إلى قوله: عبادا لنا} المصرح به في قوله:{ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد}[ الإسراء: 5] ،لأن الذين أساؤوا ودخلوا المسجد هذه المرة أمة غير الذين جاسوا خلال الديار حسب شهادة التاريخ وأقوال المفسرين كما سيأتي .
وقرأ ابن عامر ،وحمزة ،وأبو بكر عن عاصم ،وخلف ليسوءَ} بالإفراد والضمير لله تعالى .وقرأ الكسائي{ لنَسوء} بنون العظمة .وتوجيهُ هاتين القراءتين من جهة موافقة رسم المصحف أن الهمزة المفتوحة بعد الواو قد ترسم بصورة ألف ،،فالرسم يسمح بقراءة واو الجماعة على أن يكون الألف ألف الفرق وبقراءتي الإفراد على أن الألف علامة الهمزة .
وضميرا « ليسوءوا وليدخلوا » عائدان إلى{ عباداً لنا}[ الإسراء: 5] باعتبار لفظه لا باعتبار ما صدق المعاد ،على نحو قولهم: عندي درهم ونصفه ،أي نصف صاحب اسم درهم ،وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بُعد الزمن بين المرتين: فكان هذا الإضمار من الإيجاز .
وضمير كما دخلوه} عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى:{ وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها}[ الروم: 9] ،وقول عباس بن مرداس:
عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جَمّعوا
فالسياق دال على معاد ( أحرزوا ) ومعاد ( جَمّعوا ) .
وسَوْء الوجوه: جَعْل المساءة عليها ،أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن ،أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد ،كقول الأعشى:
وأقدِمْ إذا ما أعين الناس تَفْرق
أراد إذا ما تفرق الناس وتظهر علامات الفرق في أعينهم .
ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله:{ كما دخلوه أول مرة} المراد منه قوله:{ فجاسوا خلال الديار}[ الإسراء: 5] .
والتتبِير: الإهلاك والإفساد .
و{ ما علوا} موصول هو مفعول « يتبروا » ،وعائد الصلة محذوف لأنه متصل منصوب ،والتقدير: ما علوه ،والعلو علو مجازي وهو الاستيلاء والغلب .
ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة ،فكان إيماء إلى أنهم لا مُلك لهم بعد هذه المرة .وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه اليهود من المفاسد والتمرد وقتل الأنبياء والصالحين والاعتداء على عيسى وأتباعه ،وقد أنذرهم النبي مَلاّخي في الإصحاحين الثالث والرابع من كتابه وأنذرهم زكرياء ويحيى وعيسى{[267]} فلم يرعووا فضربهم الله الضربة القاضية بيد الرومان .
وبيان ذلك: أن اليهود بعد أن عادوا إلى أورشليم وجددوا ملكهم ومسجدهم في زمن ( داريوس ) وأطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون وكانوا تحت نفوذ مملكة فارس ،فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة 530 إلى سنة 330 قبل المسيح ،ثم أخذ ملكهم في الانحلال بهجوم البطالسة ملوك مصر على أورشليم فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة 166 قبل المسيح إذ قام قائد من إسرائيل اسمه ( ميثيا ) وكان من اللاويين فانتصر لليهود وتولى الأمر عليهم وتسلسل الملك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل المسيح .دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين وأقاموا عليها أمراء من اليهود كان أشهرهم ( هيرودس ) ثم تمردوا للخروج على الرومانيين ،فأرسَل فيصر رومية القائدَ ( سيسيَانوس ) مع ابنه القائد ( طيطوس ) بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد المسيح فخربت أورشليم واحترق المسجد ،وأسر ( طيطوس ) نيفاً وتسعين ألفاً من اليهود ،وقُتل من اليهود في تلك الحروب نحو ألف ألف ،ثم استعادوا المدينة وبقي منهم شرذمة قليلة بها إلى أن وافاهم الأمبراطور الروماني ( أدريانوس ) فهدمها وخربها ورمى قناطير المِلح على أرضها كيلا تعود صالحة للزراعة ،وذلك سنة 135 للمسيح .وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض ،وتفرقوا في الأرض ولم تخرج أورشليم من حكم الرومان إلا حين فتحها المسلمون في زمن عمر بن الخطاب سنة 16 ه صلحاً مع أهلها وهي تسمى يومئذٍ ( إيلياء ) .