يتعيَّن تقدير قول محذوف اكتفاء بالمقول ،وهو استئناف ابتدائي ،أي قلنا: يا أيها الرسل كلوا .والمحكي هنا حكي بالمعنى لأن الخطاب المذكور هنا لم يكن موجهاً للرسل في وقت واحد بضرورة اختلاف عصورهم .فالتقدير: قلنا لكل رسول مِمَّنْ مضَى ذكرُهم كُلْ من الطيبات واعمل صالحاً إني بما تعمل عليم .
وذلك على طريقة التوزيع لمدلول الكلام وهي شائعة في خطاب الجماعات .ومنه: ركب القوم دوابَّهم .
والغرض من هذا بيان كرامة الرسل عند الله ونزاهتهم في أمورهم الجسمانيَّة والروحانيَّة ،فالأكل من الطيبات نزاهة جسميَّة والعمل الصالح نزاهة نفسانيَّة .
والمناسبة لهذا الاستئناف هي قوله:{ وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين}[ المؤمنون: 50] وليحصل من ذلك الرد على اعتقاد الأقوام المعلّلين تكذيبهم رسلهم بعلة أنهم يأكلون الطعام كما قال تعالى في الآية السابقة{ ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون}[ المؤمنون: 33] ،وقال:{ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق}[ الفرقان: 7] ،وليبطل بذلك ما ابتدعه النصارى من الرهبانيَّة .وهذه فوائد من الاستدلال والتعليم كان لها في هذا المكان الوقع العظيم .
والأمر في قوله:{ كلوا} للإباحة ،وإن كان الأكل أمراً جبلِّياً للبشر إلا أن المراد به هنا لازمه وهو إعلام المكذبين بأن الأكل لا ينافي الرسالة وأن الذي أرسل الرسل أباح لهم الأكل .
وتعليق{ من الطيبات} بكسب الإباحة المستفادة من الأمر شرط أن يكون المباح من الطيبات ،أي أن يكون المأكول طيّباً .ويزيد في الرد على المكذبين بأن الرسل إنما يجتنبون الخبائث ولا يجتنبون ما أحل الله لهم من الطيبات .والطيبات: ما ليس بحرام ولا مكروه .
وعطف العمل الصالح على الأمر بأكل الطيبات إيماء إلى أن همة الرسل إنما تنصرف إلى الأعمال الصالحة ،وهذا كقوله تعالى{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طَعمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمنوا وعملوا الصّالحات}[ المائدة: 93] المراد به ما تناولوه من الخمر قبل تحريمها .
وقوله:{ إني بما تعملون عليم} تحريض على الاستزادة من الأعمال الصالحة لأن ذلك يتضمن الوعد بالجزاء عنها وأنه لا يضيع منه شيء ،فالخبر مستعمل في التحريض .