وشفَّع مذمتهم هذه بمذمة الكذب فقال:{ وأنهم يقولون ما لا يفعلون} ،والعرب يتمادحون بالصدق ويعيرون بالكذب ،والشاعر يقول ما لا يعتقد وما يخالف الواقع حتى قيل: أحسن الشعر أكذبه ،والكذب مذموم في الدين الإسلامي فإن كان الشعر كذباً لا قرينة على مراد صاحبه فهو قبيح ،وإن كان عليه قرينة كان كذباً معتذَراً عنه فكان غير محمود .
وفي هذا إبداء للبَون الشاسع بين حال الشعراء وحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يقول إلا حقاً ولا يصانع ولا يأتي بما يضلّل الأفهام .
ومن اللطائف أن الفرزدق أنشد عند سليمان بن عبد الملك قوله:
فبِتْن بجانبيَّ مصرَّعاتٍ *** وبتُّ أفضّ أغلاق الختام
فقال سليمان: قد وجب عليك الحد .فقال: يا أمير المؤمنين قد دَرَأ الله عَني الحد بقوله:{ وأنهم يقولون ما لا يفعلون} .وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملاً لعمر بن الخطاب فقال شعراً:
مَن مُبلِغُ الحسناءِ أن حليلها *** بميسان يُسقى في زُجاج وحنتم
إلى أن قال:
لعل أميرَ المؤمنين يسوءه *** تنادُمُنا بالجَوْسَقِ المتهدم{[302]}
فبلغ ذلك عمرَ فأرسل إليه بالقُدوم عليه وقال له: أي والله إني ليسوءني ذلك وقد وجب عليك الحدّ ،فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلتُ شيئاً مما قلتُ وإنما كان فضلةً من القول ،وقد قال الله تعالى:{ وأنهم يقولون ما لا يفعلون} فقال له عمر: أمّا عذرك فقد درأ عنك الحد ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً وقد قلتَ ما قلت .