{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} أي مما يتبجحون به من أقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم ،كناية عن أنهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم .أي فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك ،ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم ،من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة ،واتصف بمحاسن الصفات الجليلة ،وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة وحاز جميع الكمالات القدسية ،وفاز بجملة الملكات الأنسية ،مستقرا على المنهاج القويم ،مستمرا على الصراط المستقيم ،ناطقا بكل أمر رشيد ،داعيا إلى صراط العزيز الحميد ،مؤيدا بمعجزات قاهرة ،وآيات ظاهرة ،مشحونة بفنون الحكم الباهرة ،وصنوف المعارف الزاهرة ،مستقلة بنظم رائق ،أعجز كل منطبق ماهر ،وبكت كل مفلق ساحر ! قاله أبو السعود .
تنبيه:
قال الحافظ ابن كثير:اختلف العلماء فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدا .هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا ؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون – على قولين:وقد ذكر محمد بن إسحق ومحمد بن سعد{[5951]} في ( الطبقات ) والزبير بن بكار في كتاب ( الفكاهة ) أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان ،من أرض البصرة .وكان يقول الشعر ،فقال:
ألا هل أتى الحسناء أن خليلها *** بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية *** ورقاصة تحثو على كل مبسم
فإذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني *** ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه *** تنادمنا بالجوسق المتهدم
فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،قال:( إي والله ! إنه ليسوؤني ذلك .ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته .وكتب إليه عمر{ بسم الله الرحمن الرحيم .حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم .غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} أما بعد فقد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوؤه *** تنادمنا بالجوسق المتهدم
وايم الله ! إنه ليسوؤني ذلك .وقد عزلتك .
فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر .وقال:والله ! يا أمير المؤمنين ! ما شربتها قط .وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني .فقال عمر:( أظن ذلك .ولكن ،والله ! لا تعمل لي عملا أبدا ،وقد قلت ما قلت ) .
فلم يذكر أنه حده على الشراب ،وقد ضمنه شعره ،لأنهم يقولون ما لا يفعلون ولكن ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به .
وحكى الزمخشري عن الفرزدق{[5952]} أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبي مصرعات *** وبت أفض أغلاق الختام
فقال:قد وجب عليك الحد فقال:يا أمير المؤمنين ! قد درأ الله عني الحد بقوله:{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}