والرؤية في{ ألم تر} قلبية لأن الهُيام والوادي مستعاران لمعاني اضطراب القول في أغراض الشعر وذلك مما يُعلم لا مما يُرى .
والاستفهام تقريري ،وأجري التقرير على نفي الرؤية لإظهار أن الإقرار لا محيد عنه كما تقدم في قوله:{ قال ألم نُربِّك فينا وليداً}[ الشعراء: 18] ،والخطاب لغير معين .وضمائر{ إنهم} و{ يهيمون} و{ يقولون} و{ يفعلون} عائدة إلى الشعراء .
فجملة:{ ألم تر أنهم في كل واد يهيمون} وما عطف عليها مؤكدة لما اقتضته جملة:{ يتبعهم الغاوون} من ذم الشعراء بطريق فحوى الخطاب .
ومثلت حال الشعراء بحال الهائمين في أودية كثيرة مختلفة لأن الشعراء يقولون في فنون من الشعر من هجاء واعتداء على أعراض الناس ،ومن نسيب وتشبيب بالنساء ،ومدح من يمدحُونه رغبة في عطائه وإن كان لا يستحق المدح ،وذمِّ من يمنعهم وإن كان من أهل الفضل ،وربما ذمّوا من كانوا يمدحونه ومدحوا من سَبق لهم ذمه .
والهيام: هو الحيرة والتردد في المرعى .والوادُ: المنخفض بين عُدوتين .وإنما ترعى الإبل الأودية إذا أقحلت الرُبى ،والربى أجود كلأ ،فمُثّل حال الشعراء بحال الإبل الراعية في الأودية متحيرة ،لأن الشعراء في حرص على القول لاختلاب النفوس .
و{ كل} مستعمل في الكثرة .رُوي أنه اندسّ بعض المزَّاحين في زمرة الشعراء عند بعض الخلفاء فعرف الحَاجب الشعراء ،وأنكر هذا الذي اندسّ فيهم ،فقال له: هؤلاء الشعراء وأنتَ من الشعراء ؟قال: بل أنا من الغاوين ،فاستطرفها .