{ قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير}
جملة:{ قيل لها ادخلي الصرح} استئناف ابتدائي لجزء من القصة .وطوي ذكر ترحلها إلى وصولها في ذكر ما يدل عليه من حلولها أمام صرح سليمان للدخول معه إليه أو الدخول عليه وهو فيه .
لما أراها سليمان عظمة حضارته انتقل بها حيث تشاهد أثراً بديعاً من آثار الصناعة الحكيمة وهو الصرح .والصرح يطلق على صحن الدار وعَرصتها .والظاهر أن صرح القصر الذي ذكر في سفر الملوك الأول في الإصحاح السابع وهو بيت وَعْر له بابان كان يجلس فيه سليمان للقضاء بين الناس .
والقائل لها:{ ادخلي الصرح} هم الذين كانوا في رفقتها .
والقائل{ إنه صرح ممرد من قوارير} هو سليمان كان مصاحباً لها أو كان يترقبها وزجاج الصرح المبلط به الصرح بينهما .
وذكر الدخول يقتضي أن الصرح مكان له باب .وفي سفر الملوك الأول في الإصحاح العاشر: فلما رأت البيت الذي بناه .
وحكاية أنها حسبته لجة عندما رأته تقتضي أن ذلك بدا لها في حين دخولها فدل على أن الصرح هو أول ما بدا لها من المدخل فهو لا محالة ساحة مَعْنِيّة للنزهة فرشت بزجاج شفاف وأجري تحته الماء حتى يخاله الناظر لُجّة ماء .وهذا من بديع الصناعة التي اختصت بها قصور سليمان في ذلك الزمان لم تكن معروفة في اليمن على ما بلغته من حضارة وعظمة بناء .
وقرأ قنبل عن ابن كثير{ عن سأقيها} بهمزة ساكنة بعد السين عوضاً عن الألف على لغة من يهمز حرف المدّ إذا وقع وسط الكلمة .ومنه قول جرير:
لحَب المُؤقِدانِ إليَّ مؤسى *** وجعدة إذْ أضاءهما الوقود
فهمَز المؤقدان ومؤسى .
وكشف ساقيها كان من أجل أنها شمرت ثيابها كراهية ابتلالها بما حسبته ماء .فالكشف عن ساقيها يجوز أن يكون بخلع خفيها أو نعليها ،ويجوز أن يكون بتشمير ثوبها .وقد قيل: إنها كانت لا تلبس الخفّين .والممرّد: المملس .
والقوارير: جمع قارورة وهي اسم لإناء من الزجاج كانوا يجعلونه للخمر ليظهر للرائي ما قرّ في قعر الإناء من تفث الخمر فيظهر المقدار الصافي منها .فسمى ذلك الإناء قارورة لأنه يظهر منه ما يقَرّ في قعره ،وجمعت على قَوارير ،ثم أطلق هذا الجمع على الطين الذي تتخذ منه القارورة وهو الزجاج ،فالقوارير من أسماء الزجاج ،قال بشار:
ارفُق بعمرو إذا حركْت نسبته *** فإنه عربي من قَوارير
يريد أن نسبته في العرب ضعيفة إذا حُرّكت تكسرت .وقد تقدم ذكر الزجاج عند قوله تعالى:{ المصباح في زجاجة} في سورة النور ( 35 ) .
{ قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}
بهرها ما رأت من آيات علمت منها أن سليمان صادق فيما دعاها إليه وأنه مؤيَّد من الله تعالى ،وعلمت أن دينها ودين قومها باطل فاعترفت بأنها ظلمت نفسها في اتباع الضلال بعبادة الشمس .
وهذا درجة أولى في الاعتقاد وهو درجة التخلية ،ثم صعدت إلى الدرجة التي فوقها وهي درجة التحَلّي بالإيمان الحق فقالت:{ وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} فاعترفت بأن الله هو رب جميع الموجودات ،وهذا مقام التوحيد .
وفي قولها:{ مع سليمان} إيمان بالدين الذي تقلده سليمان وهو دين اليهودية ،وقد أرادت جمع معاني الدين في هذه الكلمة ليكون تفصيلها فيما تتلقاه من سليمان من الشرائع والأحكام .
وجملة:{ قالت رب إني ظلمت نفسي} جواب عن قول سليمان{ إنه صرح ممرّد من قوارير} ولذلك لم تعطف .
والإسلام: الانقياد إلى الله تعالى .وتقلُّد بلقيس للتوحيد كان في خاصة نفسها لأنها دانت لله بذلك إذ لم يثبت أن أهل سبأ انخلعوا عن عبادة الأصنام كما يأتي في سورة سبأ .وأما دخول اليهودية بلاد اليمن فيأتي في سورة البروج .وسكت القرآن عن بقية خبرها ورجوعها إلى بلادها ،وللقصاصين أخبار لا تصح فهذا تمام القصة .
ومكان العبرة منها الاتعاظ بحال هذه الملكة ،إذ لم يصدّها علوّ شأنها وعظمة سلطانها مع ما أوتيته من سلامة الفطرة وذكاء العقل عن أن تنظر في دلائل صدق الداعي إلى التوحيد وتوقن بفساد الشرك وتعترف بالوحدانية لله ،فما يكون إصرار المشركين على شركهم بعد أن جاءهم الهدي الإسلامي إلا لسخافة أحلامهم أو لعمايتهم عن الحق وتمسكهم بالباطل وتصلبهم فيه .ولا أصل لما يذكره القصّاصون وبعض المفسرين من أن سليمان تزوج بلقيس ،ولا أن له ولداً منها .فإن رحبعام ابنَه الذي خلفه في الملك كان من زوجة عَمُّونِيَّة .